روايات

في ليلة زفافي عندما رأيت زوجي أرتجفت

أحيانا أشعر أنني تعلمت في بيتكم كيف أضع الأمور في أماكنها كيف أمسح الغبار عن الطاولات وعن الأفكار. لكنني لست خادمة. أنا زوجة ابنك. هزت رأسها راضية كما لو أنني أجبت الإجابة التي كانت تنتظرها منذ الليل الأول.
رحلت إليانور في صباح بارد. لم يكن هناك صراخ ولا نواح. كان هناك صمت ثقيل وباب يغلق برفق على جيل كامل. حضر الناس بملابس سوداء أنيقة قالوا كلمات مناسبة ثم عادوا إلى حياتهم. بقي مايكل وأنا في البيت نسمع صرير الأرضية ونتذكر. في الليلة التالية للجنازة جلسنا أمام المدفأة لم نتكلم كثيرا. ثم قال فجأة أمي كانت ترى فيكي ما لم أجرؤ أنا على رؤيته. شكرا لأنك بقيت. قلت بقائي ليس معروفا. هو خياري.
مرت الأشهر. تغيرت المدينة من حولنا كما تتغير الموسيقى في محطة إذاعية من دون أن تلمس يدك الزر. كنت أزور أمي في تكساس كل بضعة أسابيع. لم تكن في صحة جيدة لكن صوتها صار أكثر طمأنينة عندما تخبر الجارات أننا نعيش قرب بحيرة كبيرة فيها صنوبر كثير. كانت تضحك وتقول إنني صرت أعرف أسماء الأطباق الفرنسية ثم تهمس إن أهم ما تغير أنني صرت أعرف قيمة نفسي. كنت أضع لها وشاحا ملونا في كل زيارة. تقول إن الألوان تعيدهاإلى أيام الشباب. كنت أعود إلى البحيرة وأنا أشعر أنني أقف على جسر يربط عالمين عالم الطفولة والتنقل بين أعمال صغيرة وعالم جديد فيه مفردات لم تكن تخصني من قبل. لم أعد أخاف من هذا الجسر. صرت أسير عليه بخطوات موزونة ومع كل خطوة أعرف أنني لن أقطع حبلي السري مع الماضي ولن أخون الحاضر الذي اخترته.
واجهتنا مصاعب من نوع آخر. في اجتماع لمجلس إدارة الشركة العائلية نظر أحد الأعمام إلي نظرة لا تحمل عداء لكنها تحمل استنكارا مستترا ماذا تفعل هذه الفتاة القادمة من قلب الريح والغبار في صالة تحكم مصير ملايين لم أحاول أن أثبت شيئا. تعلمت أن بعض الأسئلة لا تجيب عليها الكلمات بل الزمن. والزمن بطيئا كما هو كان في صفنا. صار مايكل أكثر توازنا أمامهم أقل قابلية للانكسار إذا قيل له لا. لم يعد يحتاج إلى برهان خارجي على قيمته. كان يعود إلى البيت كل مساء ويقول لو استطعت أن أرسم ساعة في هذا اليوم فهو يوم جيد.
في ربيع هادئ اقترح علي أن أعيد دراستي. كنت قد تركت المدرسة في الصف العاشر. شعرت بخوف طفولي من الفشل. قال الفشل الحقيقي أن نترك طفلة في داخلك واقفة على باب الصف تنتظر من يأخذ بيدها. التحقت بدورات مسائية فيالكلية القريبة. كنت أكبر سنا من معظم الحاضرين لكنني لم أعد أشعر بالحرج. كنت أدون بتأن وأعود إلى البيت أشرح لمايكل ما فهمته في الأدب الأمريكي في التاريخ في مبادئ الاقتصاد. كان يستمع بفرح صادق كمن يرى نبتة تختار الضوء بنفسها. حين حصلت على شهادة المعادلة الثانوية احتفلنا بكعكة صغيرة كتب عليها صاحب المخبز أحسنت يا ليلي. احتفظت بالصورة في هاتفي لا لأن الكعكة كانت مهمة بل لأن وجهي في تلك الصورة لم يعد يحمل خوفا قديما.
في الصيف التالي كان ثمة مشروع صغير في البلدة لإنشاء مكتبة عامة على شاطئ البحيرة. شاركنا معا. كان مايكل يعمل على زاوية الفنون وأنا على ركن القراءة للأطفال. كنت أقرأ بصوت واضح وأرفع بنبرة خفيفة عند النقطة التي يضحك فيها الصغار. كان تومي يزورنا أحيانا ويجلس عند الباب كأنه يحرس عالما جديدا. في نهاية الأسبوع الأول اقتربت مني امرأة خمسينية وشكرتني. قالت إن ابنتها التي تخاف من الاختلاط جاءت لأن سيدة لطيفة تقرأ القصص كما تقرأ الأمهات في البيوت. في تلك الليلة جلست على الشرفة نظرت إلى الماء الساكن وشعرت أنني امتلكت أخيرا صوتي.
سألني مايكل ذات مساء هل تحلمين بأن يكون في البيت طفل لنالم ينسف السؤال صمتنا بل وضعه في مكانه الصحيح. نظرت إليه. قلت أحلم ببيت فيه حياة. لم نقل أكثر. كنا نعرف أن الكلمات الكبيرة يمكن أن تكون قاسية إذا طرحت بلا حنان. بدأنا نسأل عن التبني. لم يكن قرارا سهلا. اكتشفنا أن الطرق طويلة وأن الأبواب تفتح أحيانا ثم تغلق. لكننا لم نفقد إيماننا بأن البيت الذي يعرف أن يعطي سيعرف أن يستقبل. ثم جاءنا اتصال بعد أشهر طفلة صغيرة تحتاج بيتا مؤقتا لستة أسابيع. اسمها آفا شعرها أسود كسواد ليل قريب من الغيم. عندما دخلت البيت أمسكت بيدي بقوة مفاجئة. لم تبتسم لكن عينيها كانت تلتقط كل تفصيلة لوحة الصنوبر المدفأة الزهر في المزهرية. صنعت لها حساء بسيطا وجلس مايكل معها على الأرض يرسمان دوائر ومثلثات. في الليلة الثانية وضعت رأسها على كتفي وقالت بصوت بالكاد يسمع هل يبقى المرء هنا إذا أحب لم أجب. شددت على يدها. أحيانا يكون جواب الأمومة هزة دافئة لا جملة.
لم نعرف ماذا سنصير بالنسبة لآفا. كان علينا أن نكون واقعيين. لكن البيت تعلم كيف يبقي أبوابه دافئة حتى لو جاءت الريح. صار لنا روتين مسائي نقرأ نرسم نترك للموسيقى أن تعلم الهواء كيف يرق. كان مايكل أكثر الرجال صمتا وأكثرهم عطاء

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock