
في ليلة زفافي عندما رأيت زوجي أرتجفت
في التفاصيل الصغيرة يترك ورقة صغيرة على طاولة المطبخ مكتوبا عليها صباح الخير يضع زهرة من الحديقة في كأس ماء إلى جوار السرير يثبت إطار صورة التقطناها على الشاطئ. في كل تلك الحركات البسيطة كان يقول ما لا تستطيع أفخم الكلمات قوله.
وفي أحد مساءات الخريف عادت السماء التي شهدت زواجنا الأول تمطر على نحو يشبه البداية. كنا نجلس أمام النافذة الكبيرة المطر ينساب على الزجاج كخيوط رقيقة والبيت يشتعل بنور أصفر ناعم. قال مايكل وهو يراقب انعكاس الماء على الأرض أتذكرين أول ليلة قلت كلها كانت كأنها تسأل هل تختارين ابتسم. وأنت اخترت. قلت وأنت اخترتني أيضا بطريقة لا ترى. هز رأسه ثم قام وأحضر لوحته الأخيرة. كانت لوحة للبحيرة في آخر النهار الضوء فيها يميل إلى عسل خفيف والماء يلتهم ما تبقى من زرقة السماء بحنان. قال لم أعد أحاول أن أجعل الماء ثابتا. صرت أرسم حركته. قلت وهذا أجمل.
حياتنا لم تتحول إلى أسطورة. لم نصبح قصة تروى في الصحف إلا على استحياء وبأخطاء طفيفة. لم نقهر العالم. لكننا بطريقة بطيئةوصحيحة قهرنا ذلك الخوف الذي كان يسكن موقع القلب الخوف من أن لا نكفي من أن يقال إن بيتا بلا أطفال ليس بيتا أو إن رجلا لا يكتمل في معنى اجتماعي معين لا يستحق الحب. تعلمنا أن الكمال وهم يتعب الناس. وأن السعادة ليست صخبا يلتقط بالميكروفونات بل تنفسا متناغما لروحين تعلمتا أن تعتبرا ضعفهما جزءا من جمالهما.
في ليلة هادئة بعد أن نامت آفا في الغرفة الصغيرة خرجت إلى الشرفة. كانت البحيرة ساكنة إلى حد أنني سمعت قلب البيت ينبض. تبعني مايكل بصمت. وقفنا جنبا إلى جنب لم نمسك بأيدي بعضنا لأننا لم نكن بحاجة إلى طقس يثبت ما صار بديهيا. قال أحيانا أفكر لو أننا التقينا في ظروف أخرى قاطعته برفق ربما كنا سنضيع. ضحك. صحيح. ربما كان سهلا أن نبتعد ونحن نظن أننا نعرف الطريق. نظرت إلى الماء وقلت الطرق التي لا علامات لها هي التي جعلتنا ننظر تحت أقدامنا ونمشي ببطء. وضع يده على كتفي لا كمن يريد أن يستملك بل كمن يقول أنا هنا.
ومضت السنوات التالية بسلام متزن. بيت البحيرة صار له فصوله الخاصة. في الشتاء نتشاركالبطانيات الثقيلة ونقرأ الكتب الطويلة التي تؤجلها الناس طوال العام. في الربيع نزرع بذورا في حديقة صغيرة صارت أشبه بكتاب مفتوح عن الصبر. في الصيف نملأ البيت بأصوات شابة من برنامج الرعاية يجيئون ويذهبون لكنهم يتركون صدى ضحكات يبقى في الجدران. في الخريف نتعلم أسماء ألوان لم نكن نعرفها من قبل صدأ الأوراق ذهب الضوء على الماء رماد الغيم.
لم تعد الفيلا مكافأة. لم تعد ورقة قانونية تذكرني بما ظننت أنه ثمن دفعته لأجل أمي. صارت بيتا حقيقيا لأننا وضعنا فيه ما لا يشترى وقتا غير مستعجل حنانا غير مشروط صدقا لا يبحث عن سند خارجي. لم أعد أشعر أنني دخيلة في عالم لا أعرفه. صار العالم يقترب مني كلما اقتربت من نفسي. ومع كل لوحة ينهيها مايكل ومع كل كتاب أنهيه أنا ومع كل مساء نغلق فيه الضوء الأخير ونصغي إلى المطر كان معنى الزواج يتسع ليس عقدا ولا عرفا بل عهدا يوميا بأن نحمل معا وعينا ونعبر به لحظة اليوم بأقل خسائر ممكنة وأكثر نعمة متاحة.
وفي كثير من الليالي حين يتعب الكلام كنا نسمع فقط خرير الماءالبعيد ونرى وهج الموقد الخافت فأعرف أنني الفتاة التي جاءت من غرب تكساس من طرق ترابية وأكف خشنة وجدت مكاني. ليس لأن بابا فخما فتح أمامي بل لأن يدا اختارت يدي وقلبا اختار قلبي وبيتا اختارنا نحن الاثنين كما لو أن البحيرة نفسها قررت أن تعيد تشكيل المرايا لتظهر لنا صورتنا كما هي غير مكتملة لكنها صادقة. وهذا يكفي.
منذ تلك الليلة المرتجفة الأولى بدلت الحياة ملامحها بلا ضجيج. لم أعد أحصي ما لم يحدث. صرت أعد ما يحدث فعلا كوب قهوة يقدم في الصباح على عجل وبابتسامة لوحة تضاف إلى الجدار فتغير الضوء في الغرفة كتاب أضعه على الطاولة وأكتب على هامشه تعلمنا أن نرى. وأحيانا عندما تخفت الأصوات حتى تصبح البحيرة أقرب إلى حكاية قديمة أنظر إلى مايكل فأراه كما رأيته أول مرة مدهوشا من الكيفية التي يستطيع بها إنسانان مجروحان أن يبنيا بيتا لا يتسرب منه المطر. يلتفت إلي ويبتسم فأعرف أنني لم أخطئ الطريق وأن السعادة كما تعلمتها أخيرا ليست كمالا بل راحة قلبين تعلما أن يسكنا جنبا إلى جنب وأن يختارا ذلك كليوم.





