
حين أدخلت الخادمة طفلًا جائعًا إلى القصر لم تتوقع ما سيحدث لاحقًا
الصبي وقال
سأحاول كل يوم.
في تلك الليلة جلس ويليام قرب سرير إيلاي حتى نام.
أغلقت كلير الباب بصمت والدموع في عينيها.
فالقصر لم يعد مجرد حجارة
صار بيتا.
مرت الشهور
وأصبح إيلاي جزءا من عائلة هارينغتون بكل ما تعنيه الكلمة.
وأخيرا اكتملت إجراءات التبني القانونية.
كان ويليام قد تغير كليا.
لم يعد ذلك الرجل البعيد الغامض
بل صار أبا بحق.
وفي يوم الاحتفال الصغير الذي انتظره الجميع بصبر وامتنان أخذ ويليام كلا من كلير وإيلاي إلى المدينة لتناول العشاء. كان ذلك اليوم مختلفا عن سائر الأيام حتى الهواء بدا أخف وكأن المدينة نفسها أدركت أن شيئا جديدا ينمو داخل قلب هذا المنزل العريق.
كان إيلاي يرتدي بدلة بحرية أنيقة صممت خصيصا له فبدت عليه أكبر قليلا من مقاسه لكنها منحته هيبة طفل يستعد لبدء حياة جديدة. كانت أصابعه الصغيرة متشبثة بيد ويليام الذي بدا بدوره أكثر وقارا وهدوءا من أي وقت مضى. أما كلير فكانت ترتدي فستانا بسيطا لكن وجههاكان يشع بابتسامة مطمئنة جعلتها تبدو كأنها أحد أعمدة هذا البيت لا مجرد خادمة.
جلسوا في مطعم هادئ يطل على النهر وتلك كانت المرة الأولى التي يرى فيها إيلاي مدينة بهذا الجمال من مقعد آمن بين أشخاص يحبونه. كان يراقب الأضواء المنعكسة على الماء ويستمع لضحكات ويليام وكلير باهتمام بالغ كأنه يحفظها في ذاكرته خوفا من أن تضيع منه.
وخلال العشاء انطلق إيلاي يتحدث بحماسة عن أحلام صغيرة ظلت حبيسة صدره لسنوات
عن رغبته في تعلم القراءة جيدا وفي امتلاك دفتر رسم وفي الحصول على دراجة تشبه تلك التي كان يراها من بعيد في المتاجر. كان يتحدث ويداه تتحركان بتلقائية طفولية وويليام ينظر إليه وكأن روحه تستعيد شيئا فقده منذ زمن طويل.
وعندما انتهوا من الطعام خرجوا إلى ضفة النهر بينما كانت المدينة تلمع تحت ضوء المصابيح. أمسك ويليام بيد إيلاي مرة أخرى فشعر الصغير بأن العالم أصبح أوسع بكثير مما عرفه وأدفأ بكثير مما تخيل.
وفي تلك الليلة عندما عادواإلى القصر وصعد إيلاي إلى غرفته الجديدةغرفة تحمل اسمه للمرة الأولىدخل ويليام خلفه ليطمئن عليه. كان الطفل قد بدأ يغفو بالفعل لكنه فتح عينيه فجأة وحدق في وجه الرجل الذي تغير أمامه خلال أسابيع قليلة ثم همس بصوت يشبه ارتعاشة شكر
أبي
توقف الزمن لوهلة.
اقترب ويليام منه ببطء وركع بجانب سريره وقال بصوت خافت يفيض دفئا
نعم يا بني
ابتسم إيلاي تلك الابتسامة الصغيرة التي تحمل تاريخا من الجوع والخوف لكنها الآن تحمل شيئا مختلفا الانتماء.
وقال بصوت مليء بالامتنان الطفولي الصادق
شكرا على كل شيء.
لم يستطع ويليام منع نفسه من الابتسام وكانت تلك الابتسامة من النوع الذي يقترب من الدموع دون أن يسقط. شعر بأن قلبه يتسع بشيء لم يعرفه من قبلشيء يشبه الشفاء يشبه ميلاد حياة جديدة.
فوضع يده على شعر إيلاي وقال له بصوت مرتجف
لا أنا من يجب أن يشكرك يا إيلاي. لقد جعلت هذا البيت وطنا.
وبعد أن أطفأ المصباح وغادر الغرفة بهدوء أدرك ويليام أن حياته القديمةالمبنية على الانعزال والصرامة انتهت تلك الليلة. وأن حياة جديدة تبنى بالحب والاهتمام قد بدأت.
ومنذ ذلك اليوم تغير كل شيء داخل قصر هارينغتون.
لم يعد القصر مجرد مبنى فخم بجدران عالية وأثاث فاخر
بل أصبح بيتا ينبض بالحياة.
أصبح الممر الذي كان يصدح بصدى خطوات الخدم فقط مكانا لضحكات إيلاي وهو يركض ذهابا وإيابا.
وصار المطبخ الذي كان مخصصا للمناسبات النادرة مساحة يتجمعون فيها لتناول الفطور البسيط الذي يحضرونه معا.
وصارت الحديقة التي كانت مهملة معظم العام مسرحا لمغامرات صغيرة يصنع فيها إيلاي اكتشافاته الأولى ويحاول فيها تقليد ويليام في العناية بالنباتات.
كانت كلير تراقب هذا التغيير بعينين دامعتين وتقول لنفسها إن هذا الطفل بجوعه وخوفه لم يدخل القصر ليأخذ
بل ليمنح.
ومع مرور الأيام أدرك الجميع أن إيلاي لم يجد في ذلك اليوم طبقا دافئا فحسب
بل وجد مكانا ينتمي إليه
وجد أشخاصا ينادونه باسمه
وجد حنانا لم يعشه من قبل
وجد قلبا يسمعهويدا تمسك به دون أن تفلت.
لقد وجد عائلة.





