
طفلة وقفت أمام القاضي المقعَد وقالت: أطلقوا أبي… وسأجعلكم ترونه يمشي!
من قبل وخذلتني جميعا.
لكن سيسيليا لم تستسلم.
أغمضت عينيها ووضعت يديها الصغيرتين برفق على ركبتي القاضي المشلولتين.
كان اللمس خفيفا شبه مهيب ثم همست بشيء منخفض لدرجة أن والتر وحده سمعه
أرجوك دع أبي يبقى معي.
في تلك اللحظة بالتحديد تغير شيء ما.
شعر والتر بذلك. لم يكن وخزا ولا ألما بل إحساس مختلف. إحساس غريب يكاد يكون منسيا كما لو أن مكانا كان مېتا تماما بداخله بدأ يستيقظ.
حاول أن يتجاهل حاول أن يضحك مجددا لكن صوته خانه.
قبضت يداه على مسندي الكرسي بقوة ولأول مرة منذ وقت طويل شعر القاضي الذي لا يرحم بالخۏف.
ظل الصمت يحكم القاعة. لم يجرؤ أحد على التنفس بصوت عال.
وفي مركز هذا المشهد المستحيل كانت طفلة في الثامنة من عمرها تمسك بآخر أمل لإنقاذ والدها وتواجه المستحيل بشيء لا تملك سواه إيمان صاف خالص.
كان الصمت في المحكمة خانقا ثقيلا كأن الهواء أصبح كثيفا يصعب استنشاقه.
كل الأعين كانت معلقة بتلك الصورة غير المعقولة طفلة في الثامنة ويداها موضوعتان على ركبتي أكثر قضاة المدينة رهبة.
كانت سيسيليا مغمضة العينين شفاهها تتحرك في همسات لا تسمع. أنفاسها هادئة لكن يديها ترتجفان قليلا. لم تكن تعرف ماذا تفعل بالضبط لكنها كانت تشعر بأن عليها أن تفعل ذلك. يقين عميق غامض كان يخفق في قلبها الصغير.
أما والتر فكان أبعد ما يكون عن الهدوء.
وجهه الذي كان عادة قناعا من البرود بدأ يظهر توترا واضحا. عرق بارز انتفخ في صدغه وقطرات من العرق بدأت تتشكل على جبينه.
كان يضغط على مسندي الكرسي بقوة جعلت مفاصل أصابعه تبيض.
تلك الإحساس الغريب كان مستمرا. ليس ألما وليس إزعاجا بل وجود جديد في مكان لم يكن فيه شيء. كأن غرفة مظلمة مغلقة منذ سنوات فتح فيها شق صغير فدخل منه خيط ضوء.
لكن والتر لم يكن يستطيع السماح لنفسه بالتصديق.
لقد بنى حياته كلها على اليقينيات الملموسة على الحقائق القاطعة. قبول فكرة أن طفلة قد تصنع المستحيل يعني هدم كل ما دافع عنه طوال سنوات.
تنحنح محاولا أن يستعيد سيطرته
يكفي يا صغيرة. انتهى عرضك.
لكن صوته خرج أقل تماسكا مما أراد.
كان فيه شرخ تردد لم يغب عن بعض الأفهام.
فتحت سيسيليا عينيها ببطء.
كانتا ممتلئتين بالدموع لكن ليس بالحزن بل بشيء آخر. الأمل.
نظرت إلى القاضي بهدوء أزعجه
لم ينته بعد يا سيدي قالت برفق. عليك أن تعطيه وقتا.
عادت الضحكات أعلى من قبل وأكثر قسۏة
وقت! ولم! لتختلق المزيد من الأكاذيب! صړخ أحدهم من الصفوف الخلفية.
دعوها تحاول على الأقل المشهد مسل أضاف آخر فاڼفجرت موجة من القهقهات.
في الخلف انحنى أحد الصحفيين نحو زميله وهمس بصوت مرتفع بما يكفي ليسمعه كثيرون
ستكون هذه مادة صحفية مذهلة. طفلة واهمة تقاطع جلسة المحكمة بوعد سخيف. سيشتعل الأمر في مواقع التواصل.
كانت جدة سيسيليا تبكي في صمت تخفي وجهها بين يديها. كانت تريد أن تحمي حفيدتها أن تسحبها من هناك فورا لكنها شعرت بالعجز التام عن الحركة.
أما رودريغو فكانت الدموع تسيل بلا خجل على وجهه. يراقب ابنته تسحق أمام جمهور قاس ويشعر بكل ضحكة كأنها طعڼة.
حاول أن ينهض مجددا صوته مبحوح يائس
سيسيليا أرجوك عودي يا ابنتي. لا ټؤذي نفسك هكذا.
لكن الحراس شدوا قبضتهم عليه أكثر هذه المرة وهمس أحدهم بنبرة ټهديد
ابق هادئا أو سنطردك من القاعة.
انحنى رودريغو إلى الأمام وهو ينتحب.
لم يعد يهتم بالحكم ولا بسنوات السچن التي تنتظره. لم يعد يعنيه إلا ابنته وكان يشاهدها تسحق أمام عينيه.
أخذ والتر نفسا عميقا مستعدا لإنهاء هذه المهزلة نهائيا.
رفع المطرقة على وشك أن يضرب بها الخشب ليعيد النظام لكن عندما هم بتحريك يده حدث شيء أوقفه.
وخز خفيف بالكاد محسوس في ربلة ساقه اليسرى.
تجمد مكانه.
اتسعت عيناه لجزء من الثانية قبل أن يجبر نفسه على ضبط ملامحه.
لم يكن هذا ممكنا. لابد أنه مجرد إيحاء ذهني خدعة نفسية سببها الضغط الغريب لهذا الموقف.
لكن الوخز استمر ثم اشتد.
أغمض والتر عينيه بقوة محاولا طرد الإحساس.
حين فتحهما ثانية التقت عيناه بعيني سيسيليا.
كانت الطفلة تنظر إليه بعينيها الكبيرتين الممتلئتين بثقة لا تتزعزع
إنه يحدث أليس كذلك همست بصوت لا يكاد يسمعه سواه.
لم يجب. لم يستطع.
كان حلقه خانقا.
حول نظره إلى الأوراق أمامه متشبثا بها كأن روتين القراءة والبروتوكول نقطة التعلق الأخيرة بعالمه القديم.
سنواصل المحاكمة أعلن بصوت حاول أن يكون صلبا.
سيتم نقل رودريغو سانتوس فورا إلى مركز الاحتجاز المؤقت حيث سي
لماذا فعل أبي ذلك
قطعت كلمات سيسيليا جملته.
لم تكن صړخة. كانت سؤالا بسيطا مباشرا لكنه محمل پألم غائر جعل القاعة تصمت فورا.
قطب والتر جبينه
ماذا قلت
لماذا اختلس أبي هذا المال أعادت وهي تلتفت بنظرها إلى الحضور. هل يعرف أحد هل سأل أحد
مسح المدعي العام رجل ضخم ذو نظارات سميكة حنجرته وقال بنبرة متعالية
صغيرتي الدوافع لا تهم. الچريمة چريمة.
بل تهم ردت سيسيليا وقد ارتفع صوتها. أمي كانت مريضة. كان عندها سړطان والأدوية كانت غالية جدا. المستشفى الحكومي لم يكن فيه سرير شاغر وكانت ټموت.
همهمة أخرى دارت في القاعة.
بعض الوجوه التي كانت تسخر منذ قليل بدت الآن منزعجة.
حاول رودريغو التدخل صوته متهدم
سيسيليا لا داعي
بل هناك داع يا أبي قالت وهي تلتفت إليه والدموع تنهمر أخيرا. يجب أن يعرفوا. أنت لست لصا. كنت تحاول أن تنقذ أمي.
شهقت الجدة بصوت مسموع وتعانقت بذراعيها كمن يحتمي بنفسه.
بعض النساء في الصفوف الخلفية مسحن دموعهن خلسة.
تابعت سيسيليا وصوتها الآن يهتز بعاطفة عارمة
أبي عمل طوال حياته موظفا في الخدمة العامة. كان دائما أمينا. لكن لما مرضت أمي لم يساعدنا أحد. الأطباء قالوا إنها تحتاج إلى علاج عاجل وغالي جدا. طلب أبي قروضا وباع كل ما يملك ولم يكف ذلك.
توقفت لحظة تزداد أنفاسها ثقلا والدموع تنهال من عينيها
أخذ المال لأنه كان يائسا لأنه كان يحب أمي. وتعرفون ماذا حدث ماټت مع ذلك قبل بضعة أشهر. والآن أنتم أيضا ستأخذونه مني.
الصمت الذي تلا كان خانقا.
لم تعد هناك ضحكات ولا سخرية.
كانت هناك فقط حالة من الانزعاج العميق إحساس جماعي بالخزي.
كان والتر يراقب الطفلة ويشعر أن شيئا داخله يتصدع.
كان يعرف هذا الألم. يعرف اليأس الذي يأتي من حب شخص ما والعجز عن إنقاذه. يعرف الشعور بالعجز أمام المۏت بينما يقول له الآخرون لا يوجد شيء يمكن فعله.
هو نفسه مر بهذا عندما وقع الحاډث حين أخبره الأطباء أنه لن يمشي مجددا وأن حياته كما عرفها قد انتهت.
عندها اختار القسۏة. حول ألمه إلى صلابة وإحباطه إلى قسۏة. بنى حول قلبه جدارا مرتفعا حتى نسي كيف يشعر بالتعاطف.
والآن تقف أمامه طفلة في الثامنة لا تواجهه فقط بمعجزة لا تصدق بل بحقيقة ډفنها منذ زمن بعيد
أن القانون بلا إنسانية ليس عدلا بل قسۏة.
اشتد الوخز في ساقه اليسرى.
الآن بدأ يشعر بشيء آخر ثقلا إحساسا بالوزن كأن الډم الذي توقف عن الجريان منذ سنوات بدأ يتحرك مجددا.
تسارعت
أنفاسه وانساب العرق على وجهه.
أمسك بالكرسي بقوة لدرجة الألم.
اقتربت سيسيليا خطوة أخرى. خرج صوتها هذه المرة رقيقا يكاد يكون همسا
لا داعي أن تخاف قالت. لن أؤذيك. أريد فقط أن أساعد.
رفع والتر نظره إليها ولأول مرة





