قصص قصيرة

امرأة نزلت لتنظّف بئرًا مهجورًا فعادت بحقيقةٍ كانت مدفونة لعقود

عندما وضعت ماريا قدمها على الدرجة الأولى من السلم الحجري شعرت بأن الهواء من حولها تغير تغيرا لا يمكن تفسيره بالعقل وحده. كان الهواء الثقيل الذي يخرج من جوف البئر يشبه أنفاسا قديمة محملة برطوبة السنين وذكريات لم يعد أصحابها موجودين. لم يكن المكان مجرد حفرة مهجورة كان طريقا نحو شيء عميق شيء ظل مدفونا عقودا طويلة في صمت صخري لا يتحدث إلا لمن يجرؤ على النزول إليه.
كانت يدها اليسرى تمسك الحبل بإحكام بينما ترتفع يدها اليمنى بالمصباح الصغير المثبت بالسلسة وكلما هزت يدها كانت الدوائر الضوئية ترتجف على الجدران كأن هناك ظلالا تراقبها وتتحرك معها. ورغم أن جسدها النحيل أنهكه العمل العمر كله إلا أن قلبها كان يخفق بقوة لم تشعر بها منذ عقود قوة تشبه تلك التي يشعر بها الإنسان حين يقف على حافة حقيقة أكبر منه.
كل خطوة نزلتها كانت تطرق في جوف البئر مثل مطرقة فتعود إليها كأصداء بعيدة أصداء لا تعرف إن كانت لها وحدها أم أنها تذكرها بأن هذاالمكان عرف خطوات غيرها قبل زمن بعيد. كانت تردد في داخلها دعاء بصوت خافت وهي تشعر أن الظلام الممتد تحت قدميها لا يخلو من أرواح تائهة لم تجد الطريق الى السماء بعد.
بعد وقت بدا لها طويلا أكثر مما هو عليه وصلت إلى المنصة الحجرية. وقفت عليها تتنفس بصعوبة وصوت أنفاسها يرتد بين الجدران كأنه اعتراف ثقيل. رفعت المصباح وإذا بها ترى الممر المعتم الذي يبتلع الضوء مثل فم مفتوح. كان الممر يشبه فوهة نفق يقود إلى بطن الأرض وحول فوهته كلمات منقوشة محفورة بخط غليظ غير منتظم كلمات كتبت بيد مرتعشة
من ينزل يتحمل ثقل السر.
قرأت الكلمات أكثر من مرة. أحست بأنها رسالة موجهة إليها تحديدا كأن الزمن نفسه كان ينتظر قدومها إلى هنا. في الثالثة والستين من عمرها وبعد سنوات من الفقر والوحدة والضياع ما الذي كان يمكن أن تخافه بعد الآن إذا كانت الحياة فوق الأرض قد أنهكتها فما الذي قد يفعله لها الظلام تحتها
سارت بخطوات مترددة في عمق الممر حتى وصلت إلى الدرج الحجري الثاني. أخذت نفسا عميقا وبدأت بالنزول. كان الصمت طاغيا لا يكسره إلا احتكاك قدميها بالحجارة. وبعد خمسين درجة وصلت إلى الحجرة الواسعة التي بدت كأنها قبر صخري عملاق نحت بعناية.
كانت الأوراق الصفراء المتناثرة على الأرض أول ما خطف نظرها. اقتربت منها التقطت ورقة ورفعت المصباح كي ترى بوضوح. وعندما قرأت الكلمات الأولى شعرت بشيء يشبه الطعنة الحادة يخترق صدرها. أسماء تواريخ أوصاف أسعار عقوبات وجملة ختامية مخيفة عند كل سجل
دفن في أسفل المزرعة.
دفنت خلف الإسطبل.
أخفي أثره.
انتهى.
لم تستطع أن تكمل القراءة. شعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها وأن الهواء صار أثقل من قدرتها على التنفس. انحنت وجمعت المزيد من الأوراق وكل ورقة كانت تكشف مأساة جديدة روحا أخذت من الدنيا ظلما طفلا لم يكبر امرأة لم تعرف العدل رجلا اختفى ولم يجد أحد جسده ليدفنه. كم من الأرواح عانت هنا في هذا المكان
وقعت عيناها بعدها على الصندوق الصغير. فتحته وارتجفت. كان الذهب في الداخل يشبه نارا مضيئة تتلألأ كأنها تريد أن تغريها بكل الطرق الممكنة. تأملت اللمعان الأصفر ولمعت في ذهنها فكرة سريعة لو أخذت هذا الذهب يمكنها أن تعود إنسانة من جديد يمكنها أن تستعيد حياة فقدتها وتزور أبناءها وتعيش بكرامة. لكن عندما نظرت ثانية إلى الورقة في يدها إلى اسم الصبي البالغ من العمر خمس سنوات انطفأ هذا اللمعان فجأة.
فهمت في تلك اللحظة أن هذا الذهب ليس كنزا بل شهادة على الظلم وعلى الألم وعلى خطايا عائلة أخفت الماضي داخل بئر.
أغلقت الصندوق بقوة حتى ارتطم الغطاء بجوانبه وارتعش المصباح في يدها. وقفت وسحبت نفسا طويلا ثم بدأت الصعود. شعرت أن الدرجات لا تنتهي وأن الظلام يحاول سحبها إلى الداخل. لكنها رغم كل شيء كانت مصرة على أن تعود لأن السر الذي حملته لم يعد يخصها وحدها بل يخص أرواحا يجب ألا تبقى منسية بعد الآن.
وعندما خرجت سقطت على الأرض منهارة. استغرق الأمر دقائق قبل أن تستعيد توازنها ودفعت جسدها المتعب نحو البيت

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock