
من تحرّكي أيتها العاجزة إلى لن تقفي وحدك أبدًا: حكاية إميلي وفرسان الحديد
شوارع زلقة يمكن أن تجعل الوقوف على العكازين مغامرة خطرة.
كانت إميلي تنظر إلى كل ذلك بدهشة.
لم يكن في حياتها أب فقد غاب عنها منذ كانت صغيرة.
تعودت أن تكون الأم هي الجدار الوحيد الذي تتكئ عليه.
الآن كان هناك جدار آخر مختلف في الشكل لكنه يحمل نفس الإحساس بالأمان.
مايك لم يحاول يوما أن يحل محل أحد لا والد غائب ولا عم بعيد.
كان فقط رجلا يقدم ما يستطيع وقتا وموقفا وابتسامة وكلمة تشجيع وكتفا قويا يمكن أن يسند رأسا مرهقا.
في إحدى زياراتهم بينما كان بعض أعضاء النادي في الحديقة الخلفية يصلحون سياجا مكسورا ويضحكون على نكات قديمة جلست إميلي في المطبخ مع مايك وحدهما تقريبا.
كانت تراقب بخار القهوة وهو يصعد من الكوب أمامها وتحاول أن تصيغ سؤالا ظل حبيس صدرها لأيام.
قالت أخيرا بصوت فيه شيء من الخجل
لا أريد أن أكون مجرد الفتاة التي تم إنقاذها. أشعر أحيانا أن الناس يرونني هكذا فقط ضحية. وأنا لا أريد ذلك.
رفع مايك عينيه إليها بإمعان.
كان يفهم شعور أن تختزل في لحظة واحدة. هو نفسه حكم عليه في نظر البعض بأنه رئيس نادي دراجين لا أكثر دون أن يعلموا ما حمل في قلبه من حروب وما تركه في روحه من أثر.
ابتسم وقال
جيد أنك لا تريدين ذلك هذا يعني أن في داخلك شيئا أقوى من الثرثرة التي تدور حولك.
سكت لحظة ثم أضاف
سنعلمك كيف تقفين بثبات يا صغيرتي ليس على قدميك فقط بل في حياتك كلها.
منذ ذلك اليوم لم تعد لقاءاتهم مجرد زيارات لطيفة.
تحولت إلى ما يشبه مدرسة غير رسمية مدرسة لا تدرس الرياضيات أو الكيمياء بل دروسا من نوع آخر
كيف تجيبين حين يستخف بك أحد دون أن تنحدري لمستوى قسوته.
كيف تنظرين إلى عرجك لا كعيب بل كجزء من قصة طويلة علمتك الصبر.
كيف تعبرين الشارع بخطوات متوازنة متصالحة مع إيقاعك الخاص لا تحاولين مجاراة خطى الآخرين.
كيف تنظرين في المرآة دون أن تفتشي عن النقص بل عن القوة التي جعلتك تنهضين بعد كل سقطة.
لم يكتفوا بالكلام.
علموها استعمال أدوات بسيطة في إصلاح الأشياء كيف تستبدل مصباحا كيف تستخدم مفكا كيف تغير إطار سيارة على مهل خطوة بعد خطوة.
في كل مرة كانت تكمل مهمة ولو صغيرة كانت تلاحظ ذلك البريق في عيونهم بريق الفخر الصادق الذي لا يشوبه شفقة.
وكانوا في المقابل يحكون لها عن حياتهم
عن المخاطر التي مروا بها في الطرقات عن حروب خاضوها في بلدان بعيدة ثم عادوا منها وفي داخلهم حروب أكبر.
عن الأيام التي شعروا فيهابالضعف وكيف أن وجود شخص واحد يؤمن بهم أنقذهم من السقوط.
كانت تستمع إليهم فتدرك شيئا فشيئا أن العرج في الساق ليس أعظم امتحان يمكن لإنسان أن يواجهه وأن الكسور التي لا ترى بالعين أخطر من تلك التي تثبت في الجبس.
ومع مرور الأشهر لم يعد حضورها إلى مقر النادي أمرا غريبا.
كان لها مكان خاص تجلس فيه على كرسي قريب من الباب حيث تستطيع أن ترى الداخلين والخارجين وتستمع إلى ضحكاتهم وتشاركهم القليل من حكاياتها.
شيئا فشيئا بدأت تشارك في فعالياتهم الخيرية.
في البداية كانت فقط تساعد في ترتيب الطاولات أو وضع الكتيبات على المكاتب أو تثبيت البالونات في فعاليات مخصصة للأطفال في المستشفيات.
لكن ذلك الإحساس بالانتماء كان يكبر بداخلها مع كل يوم.
كانت تراقب الأطفال الذين يزورونهم بعضهم يخضع للعلاج بعضهم يجلس على كرسي متحرك بعضهم فقد شعره تماما.
حين كانت تبتسم لهم كانت ترى في عيونهم نفس السؤال الذي كان يسكن عينيها يوما
هل يمكن أن نكون سعداء هكذا رغم كل شيء
كانت الإجابة ببطء تصبح نعم.
لأول مرة في حياتها شعرت أنها ليست مجرد فتاة تمشي بعكازين وتهرب من الأنظار بل شخص له دور له مكان له عائلة اختارته كما هو لا كما يتمنى المجتمع أن يكون.
مرت الأشهر وكبر معها شيء يشبه جناحين غير مرئيين على ظهر إميلي.
لم تكن تعرف متى حدث ذلك بالضبط
أكان في اليوم الذي صعدت فيه لأول مرة على دراجة مايك
أم في اليوم الذي وقفت فيه أمام فصل دراسي كامل وتحدثت بلا خوف
أم في تلك اللحظة التي نظرت فيها إلى العكازين ولم ترهما كقيد بل كأداة تعبر عن رحلتها لا عن ضعفها
كان كل يوم يحمل إجابة صغيرة وكل موقف يضيف قطعة جديدة لشخصيتها التي تتشكل من جديد.
جاء صباح سبت مشمس صاف بطريقة تجعل الهواء يبدو جديدا.
كانت الشمس تلمع فوق خزانات الوقود المعدنية الصقيلة وعلى مقابض الدراجات وعلى الخوذ السوداء المصفوفة على الطاولات الخشبية قرب مقر النادي.
اليوم هو يوم الركوب الخيري الذي ينظمه فرسان الحديد كل عام لصالح المستشفيات ودعم الأطفال من ذوي الإعاقة.
وقفت إميلي عند حافة التجمع تتفحص المشهد بعينين اتسعتا بتموج الضوء.
كانت هناك عشرات الدراجات قبل أن تتحرك تلمع كقطع حديدية حية تستعد للتحليق.
زوجان كبيران في العمر يتبادلان الضحك شابان يلتقطان الصور امرأة تحمل خوذة وردية وطفلتها تلوح بعلم صغير رجال بملابس جلدية يثبتون حقائبهم ومجموعة تراجع خط السير على خريطة كبيرة.
كانت الحياة تدور حولها لكنها لم تعد تقف عند الهامش.
اقترب منها مايك وهو يحمل خوذتها الجديدة.
كانت خوذة صغيرة الحجم لكنها قوية تحمل رسمة بسيطة لزهرة الأقحوان نفس الزهرة التي أهداها لها في أول زيارة لهم إلى بيتها.
قال مبتسما
جاهزة للطريق
تمسكت بالخوذة قليلا ثم أومأت بثقة.
كانت في الماضي تخشى السقوط من أبسط درجات السلم فكيف لو أخبروها قبل عام أنها ستركب دراجة نارية خلف رجل يلقب بهامر
لكن الحياة غريبة حين يعطيك أحدهم يدا صادقة تستطيع أن تقف في أماكن لم تتخيلها يوما.
جلست خلفه وربطت حزام الخوذة ووضع هو يده على مقود الدراجة بينما كانت عكازاها مربوطة بإحكام على جانبها.
صوت المحرك حين اشتعل كان أشبه بقلب كبير ينبض بقوة العالم بأكمله.
كانت الريح حادة في البداية تهب على وجهها فتجعلها تغلق عينيها لثوان.
لكنها سرعان ما فتحتها وتعلقت بأكتاف مايك ليس خوفا بل استعدادا لعبور لحظة مهمة.
كانت عضلات ظهره مشدودة قوية ثابتة كأنها تخبرها لا تخافي. أمامك طريق طويل يستحق أن تعيشيه.
انطلقت الدراجات تباعا واحدا بعد الآخر حتى امتدت على الطريق كصف من السهام الحديدية اللامعة.
كانت السيارات تفسح لهم الطريق والناس يخرجون من محلاتهم وبعض الأطفال يركضون إلى الأرصفة ليلوحوا بأيديهم.
رفعت إميلي رأسها نحو الشمس.
لأول مرة منذ الحادث لم تشعر بأنها محصورة داخل جسد محدود.
شعرت بأنها تمتد تتوسع تنطلق
وكأن روحها تركب الدراجة لا،
جسدها.
توقفوا عند مطعم صغير على الطريق السريع.
كان المكان بسيطالافتة حمراء باهتة نوافذ زجاجية ترقص عليها ظلال الأشجار رائحة خبز وزبدة وقهوة قديمة.
نزلت عن الدراجة ببطء لكن بثبات.
لم تشعر تلك المرة أنها تحتاج لإخفاء الألم حين تضع العكاز على الأرض.
لم تعد ترى عكازيها كعار بل كقلم يكتب خطواتها بطريقة مختلفة.
وقف مايك قربها وهو يخلع خوذته شعره الرمادي يتناثر بفوضى جميلة صنعتها الريح.
قالت وهي تضحك ضحكة حقيقية خرجت من قلب لم يعد يعرف ثقل البكاء كما كان
تعرف ما المدهش
لم أعد أشعر أنني مكسورة.
نظر إليها مايك طويلا كأنه يحفظ تلك الجملة في ذاكرة خاصة لا يسمح لأحد بدخولها ثم قال
لأنك لم تكوني مكسورة يوما
كنت فقط بحاجة إلى من يذكرك بقوتك.
لم تقل شيئا.
كانت الكلمات أقوى من أن يرد عليها.
وفي اللحظة نفسها شعرت بأن شيئا صغيرا في داخلهاشيئا انكسر قبل سنوات عاد ليلتئم أخيرا.
عادت إلى المدرسة صباح الإثنين لكنهذه المرة لم تشعر أن الممرات ضيقة أو أن الأنظار ترصد كل خطوة.
كانت تمشي وكتفاها أعلى ورأسها مرفوع ونظرتها مستقيمة لا تهرب.
حين طلبت الإدارة منها أن تتحدث في لقاء طلابي حول التنمر وقفت على المسرح بخطوات بطيئة لكنها واثقة.
حملت الميكروفون ورأت الوجوه أمامهامراهقين من مختلف الطبقات مختلفي الطباع بعضهم عرفها منذ كانت الفتاة التي تسقط بسهولة وبعضهم عرفها من الفيديو الذي صنع ضجة.
قالت بصوت هادئ لكنه قوي
التنمر ليس ضربة على الأرض بل ضربة على الروح.
وأسوأ ما فيه ليس أن يؤذيك بل أن يجعلك تصدق أنك ضعيف.
لكن الحقيقة
أن القوة ليست في القدمين اللتين تحملانك
بل في القلب الذي يجعلك تقف كل مرة.
لم تكن الكلمات مكتوبة مسبقا.
خرجت من عمق لم تكن تعرف أنه حاضر فيها.
بدأ البعض يصفق ثم امتلأت القاعة بالتصفيق ذلك التصفيق الذي يدخل الروح لا الأذن.
وفي الخلف خلف الطلاب كان رجل بلحية رمادية يقف قرب الباب خوذته تحت ذراعه ينظر إليها بفخر أبوي لا يحتاج أن يقال بصوت.
هز رأسه لها فقط وكانت تلك الإيماءة أغلى من كل التصفيق.
بعد أشهر وفي صباح هادئ كأن الزمن نفسه توقف فيه عادت إميلي إلى موقف الحافلة القديم.
نفس الرصيف.
نفس لوحة الإعلانات التي كانت ممزقة.
نفس العمود المعدني الذي ارتطم به أحد عكازيها يوم سقطت.
لكن كل شيء آخر تغير.
كانت خطواتها أكثر ثباتا.
كانت يدها تمسك بالعكاز بثقة لا محاولة للاختباء.
والأهم لم تكن وحدها.
على بعد بضعة أمتار كان يقف اثنان من فرسان الحديد يراجعان شيئا على دراجتيهما وكأن الأمر عابر.
لكنها عرفت أنهما هنا لأجلها لا لحماية جسدها من متنمر جديد بل لحماية روحها من أن تشعر أنها وحدها في مواجهة العالم.
ابتسمت لهما فبادلاها الإيماء باحترام صامت.
مرت الحافلة وانعكست صورتها على الزجاج.
نظرت إلى ملامحها جيدا إلى عينيها اللتين صارتا أكثر عمقا إلى الخدوش التي اختفت إلى الندوب التي بقيت لكنها لم تعد مرعبة إلى الفتاة التي لم تعد ترى نفسها عاجزة بل ناجية ومقاتلة وامرأة صغيرة تتعلم كيف ترفع رأسها بلا خوف.
همست لنفسها
القوة ليست في المشي بلا عرج
القوة في القدرة على النهوض مرة بعد مرة.
وبينما صعدت إلى الحافلة دوى في البعيد هدير محركات
هدير مألوف يشبه وعدا يرافقها أينما ذهبت
أن العائلة ليست دائما تلك التي نولد فيها
بل تلك التي تظهر حين يرحل الجميع.
وانطلقت الحافلة نحو يوم جديد
ووراءها بقيت آثار الدراجاتعلى الطريق
كأنها توقيعات لرجال ونساء قالوا للعالم يوما
الإنسان لا يقف وحيدا طالما بقي في الأرض من يعرف معنى الشجاعة.





