قصص قصيرة

الليلة التي غيّرت قلب المليونير

كبير الخدم وسأله عنها. علم أنها أتت قبل عامين فقط وأنها نادرا ما تأخذ إجازة تعمل بصمت ولا تتحدث مع أحد إلا بما يلزم. لم تكن تطلب شيئا ولا تتذمر من شيء فقط تعمل وتغادر.
في الأيام التالية بدأ يراقبها من بعيد. لاحظ أنها تحب الزوايا الهادئة وأنها تتوقف أحيانا عند النافذة لتتأمل السماء وكأنها تهمس لأحد هناك. في إحدى المرات رأى دمعة صغيرة على خدها بينما كانت تزيل الغبار عن إطار صورة قديمة في الممر. سألها بعدها بخفة هل تعرفين من في الصورة ابتسمت بخجل وقالت ربما والدتك يا سيدي. وجهها يشبه الضوء. لم يقل شيئا. لكن في تلك اللحظة أدرك أنها الوحيدة في هذا القصر التي تحدثت عن والدته بهذه البساطة.
مرت أيام أخرى وأصبح وجودها مألوفا له بشكل يربكه. كان يستيقظ فيتذكر أنها تمر في الممرات يسمع صوت خطواتها يلتقط رائحة صابونها البسيط ويشعر أن البيت صار أقل برودة. لكنه لم يجرؤ على الاعتراف لنفسه أن تلك الفتاة الصغيرة بدأت تملأ الصمت الذي كان يحيط به منذ سنوات.
وذات مساء ممطر عاد إلى القصر في ساعة متأخرة وكان القصر مظلما إلا من ضوء واحد في المطبخ. سمع صوتها تغني بخفوت وهي تنظف الأواني. دخل دون أن تدرك وجوده فوقف خلف الباب يستمع. كانت تغني بلغتها الريفية القديمة كلمات لا يفهمها

لكنه شعر بها كنبض دافئ في صدره. حين التفتت ووجدته واقفا احمر وجهها وأسقطت المنديل من يدها. قال بهدوء صوتك جميل يا لوسيا لماذا لم تغني من قبل تلعثمت آسفة يا سيدي لم أقصد لم أظن أن أحدا يسمع. ابتسم وقال ربما هذا ما يجعل صوتك صادقا لأنك لا تغنين لأحد.
لم تعرف ماذا ترد فجمعت أدواتها وغادرت بخجل شديد. بقي واقفا ينظر إلى مكانها الفارغ طويلا ثم عاد إلى غرفته يحمل في داخله شيئا لم يستطع تفسيره. تلك الليلة لم ينم ظل يفكر في عينيها في ارتباكها في البساطة التي يفتقدها هو وكل من حوله.
في اليوم التالي حدث شيء لم يكن في الحسبان. بينما كانت لوسيا تنظف درج مكتبه سقط منه صندوق خشبي قديم. فتحت الغطاء لتعيد ترتيب الأوراق لكن عينيها وقعتا على صورة صغيرة لطفل يجلس على البيانو نفسه الذي في القصر. لم تكن تنوي التدخل لكن الصورة سقطت بين يديها ورأى أليخاندرو ذلك عندما دخل فجأة. تجمدت في مكانها بينما رفع حاجبه وقال ببرود من سمح لك بلمس هذا
ارتبكت أعادت الصورة بسرعة وقالت پخوف كنت أنظف فقط يا سيدي لم أقصد شيئا. أخذ الصورة من يدها بنظرة قاسېة لكنه لاحظ دموعها وهي تهمس آسفة لم أرد أن أجرح شيئا يعني لك الكثير. غادر الغرفة دون أن يرد. لكن بعد دقائق جلس وحده أمام تلك الصورة وتساءل لماذا بكت هي ما الذي جعلها تتأثر أكثر منه
مرت أيام صامتة بينهما بعد الحاډثة. لكنها لم تترك العمل ولم تهرب كما توقع. كانت تأتي كل يوم بنفس الهدوء تقوم بعملها دون أن تنظر إليه وكأنها تفهم أنه يحتاج وقتا ليهدأ. في أعماقه كان يشعر بالذنب كأنه قسا على من لا تستحق القسۏة. وفي ليلة أخرى نزل إلى المطبخ فوجدها جالسة هناك تغلق دفترا صغيرا بسرعة حين رآه. قال ما الذي تكتبينه نظرت إليه پخوف ثم ترددت وأجابت بصوت خاڤت رسائل لوالدي رحلا منذ زمن لكني أكتب إليهما كلما شعرت بالوحدة.
جلس أمامها دون أن يدري لماذا. قال بهدوء وما تكتبينه اليوم
قالت أني وجدت بيتا لا يشبه القصور لكنه علمني أن القلوب الهادئة يمكن أن تنبت حتى بين الجدران الباردة.
لم يفهم كل شيء لكنه شعر أن كلماتها لم تكن عن القصر بل عنه هو.
في تلك اللحظة لم يعد يراها خادمة. رأى فيها إنسانة من نور. فتاة فقدت كل شيء لكنها لم تفقد قدرتها على منح الدفء للآخرين. اقترب منها وقال بصوت منخفض لوسيا لو طلبت مني أن أسمعك تغنين مرة أخرى هل تفعلين
رفعت عينيها إليه للمرة الأولى منذ عامين وابتسمت بخجل وقالت ربما إن وعدت ألا تتظاهر بالنوم هذه المرة.
ضحك بخفة ضحكة حقيقية لم يعرفها منذ زمن. ومن تلك الليلة تغير كل شيء. لم يعد القصر صامتا كما كان ولم يعد أليخاندرو يختبئ خلف بروده. كان يجلس ليستمع إلى صوتها في الممرات ويشعر أن الحياة بدأت تعود إليه بهدوء يشبه السحر.
وبعد أسابيع حين سافر في رحلة عمل قصيرة ترك لها رسالة صغيرة على الطاولة كتب فيها
أحيانا لا نحتاج إلى اختبار أحد بل إلى من يعيد اختبار إنسانيتنا.
وحين عادت لوسيا وقرأت تلك الكلمات جلست على الأريكة نفسها حيث تظاهر بالنوم ذات ليلة وأغمضت عينيها مبتسمة. ربما لم تبدأ الحكاية بالحب لكنها بالتأكيد انتهت بما هو أعمق منه بأن يجد كل منهما في الآخر ما أعاده للحياة.

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock