قصص قصيرة

مراتي

سألتها بحدة لم أقصدها:

“ريحة مين؟”

هزّت رأسها بيأس، والدموع انفجرت من عينيها دون مقدّمات.

ازدادت شهقاتها وهي تكمل:

“كان يمنعني أخرج… يمنعني أتنفس… ولما كنت أحاول أرفض… كان… كان ).”

كانت يدها ترتجف داخل يدي. وأنا… لم أعرف ماذا أقول. صمتّ للحظة، أحاول أستوعب حجم الألم المختبئ تحت كل كلمة

وضعت وجهي بين يديّ للحظة. ليس غضبًا منها… بل غضبًا عليه.

اقتربتُ منها ورفعت ذقنها بخفّة، وقلت:

“أماكا… الريحة الوحيدة اللي هنا… ريحتك إنتي. ريحة حياتك الجديدة. وأنا مش هسمح لحد… لا الماضيولا أي حد… ياخد ده منك.”

لأول مرة منذ خمسة أشهر… انحنت على صدري وبكت. بكت بكت، وكأنها تفرّغ خمس سنوات كاملة من الألم.

وعندما نامت تلك الليلة… لم تستدر بظهرها. ولأول مرة… لم تستحم مرّتين.

لكن ما لم أكن أعرفه… أن ذلك الرجل، ماضيها، لم يختفِ كما ظنّت.

ولم يكن بعيدًا عنّا كما اعتقدنا.

مرت أسابيع بعد اعتراف أماكا، أسابيع تعلمتُ فيها كيف أمسِك يدها دون أن ترتجف، وكيف تسمح لي أن ألمس روحها . كانت تتحسن… خطوة صغيرة كل يوم، لكنها خطوات ثابتة.

وفي إحدى الليالي، بينما كنا نجلس على الشرفة نشربالشاي، رنّ هاتفها برقم كانت تخشاه… رقم الرجل الذي هربت منه.

نظرت إليّ بعينين مذعورتين، فمددت يدي وانتزعت الهاتف بلطف، ثم ضغطت على زرّ الرد وقلت له بصوت ثابت:

“أماكا مش لوحدها. ومش راجعة ليك. انتهى.”

صمت الرجل لثوانٍ، ثم أغلق الخط. لم يتصل بعدها مرة واحدة.
ولأول مرة… رأيت على وجه أماكا نظرة انتصار حقيقية.

ومع مرور الوقت، بدأت تترك الحمّام الثاني تدريجيًا، كأنها تخلع خوفًا قديمًا عن كتفيها. وفي ليلة من ليالي الشتاء، بعدما أنهت حمّامها الأول فقط، خرجت تضحك، وقالت لي:

“شايف؟ أنا بخفّ.”

ضحكتُ أنا أيضًا، وفتحت ذراعي. جاءت نحوي بلا تردد… بلا خوف… بلا ماضي يطاردها.

وبعد سنة كاملة، وقفتُ معها أمام البحر في رحلة صغيرة قمنا بها. الهواء يداعب شعرها، والموج يتكسر برقة تحت أقدامنا. أمسكت يدها، فابتسمت وقالت:

“حاسة إني اتولدت من جديد.”

همستُ لها:
“وأنا اتولدت يوم ما دخلتي حياتي.”

ثم اقتربت مني ووضعت رأسها على كتفي. شعرتُ وقتها أن كل شيء كان يسير نحو هذه اللحظة…
لحظة فيها راحة… وطمأنينة… وبداية جديدة لا يخنقها الماضي ولا الخوف.

وفي تلك اللحظة، أدركتُ أن النهاية الحلوة لا تكونمجرد نهاية…
بل تكون بيتًا جديدًا يتبنيه قلبان نجوا معًا.

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock