
الجميع خاف منها… إلا هو الحقيقة المرعبة خلف الفتاة التي أخفت سرّ الأفعى
كان الليل يثقل على غرفة آداورا كأن الظلام وضع كفه فوق صدرها. في الخارج كانت صراصير الليل تنشد لحنا رتيبا وكانت الريح تحرك أوراق شجرة المانجو العتيقة. أما في الداخل فلم يكن نوم آداورا هادئا ولا آمنا.
في حلمها رأت نفسها حافية القدمين في غابة يغمرها ضباب فضي متوهج. كان الهواء يلمع كأنه حي وتتحرك فيه همسات تشبه الفحيح. أمامها بركة ماء ساكنة إلى حد أنها بدت مرآة مصقولة. انحنت فوقها ببطء فرأت انعكاسها يحدق إليها لكن بعينين صفراوين ضيقتين باردتين لا تشبهان عينيها.
ومن بين الضباب خرجت هيئة امرأة. كانت أمها. ترتدي ثوبا أبيض حافية القدمين ووجهها شاحب كالعظم.
قالت الأم بصوت خافت
يا آداورا عليك أن تتحكمي فيه. إن دم إيكه ننيكا يجري قويا فيك وإذا استيقظ فلن يعاد إلى النوم.
هزت آداورا رأسها وهي تكاد تختنق
يا أمي لا أريد هذا! أريد أن أكون عادية مثل الجميع!
تردد صوت المرأة كريح تمر بين أشجار جوفاء
العادية ليست قدرك. الأفعى تختار وعاءها. لقد ولدت تحت العلامة والالتفاف حولك هو نصيبك.
بدأت الأرض ترتج. ومن العتمة انسلت أفاع ذهبية وفضية تزحف نحوها تلتف حول ساقيها ثم ترتفع أعلى. كانت حراشفها تتلألأ كضوء القمر.
صرخت آداورا بكل ما فيها
لا! اتركوني!
وفجأة انتفضت من نومها وهي تلهث. كانت ملاءتها مبللة بالعرق وقلبها يضرببعنف. قبضت على ذراعيها ثم تجمدت.
كانت خطوط خضراء دقيقة تزحف خافتة تحت جلدها كأنها عروق من ضوء.
همست وهي تضم كفيها
لا ليس من جديد.
وبدأت تدندن الدعاء الذي علمته إياه جدتها لحنا أقدم من اللغة. شيئا فشيئا خفت الضوء وتلاشت الخطوط. بقيت آداورا ترتجف وخوفها أكبر من قدرتها على الفهم.
مع الصباح كانت المدرسة تضج بالهمسات.
قال أحدهم هل سمعتم آداورا أغمي عليها ليلة أمس!
وقال آخر بل سمعت أنها ممسوسة!
وردت فتاة يقولون إن عينيها تصيران خضراوين حين تغضب!
انتشرت الشائعات كالنار في الهشيم. لم يعرف أحد من بدأها لكن الخوف يجد دائما طريقه حين تضعف الحقيقة.
وصلت هذه الهمسات إلى إيميكا أيضا. في البداية تجاهلها لكنه حين دخل الصف ورأى مقعد آداورا فارغا تسلل إلى صدره قلق بارد لم يستطع تفسيره.
وخلال الاستراحة رأى آداورا تمشي وحدها نحو بوابة المدرسة كما تفعل دائما. كان وجهها شاحبا وحركتها متوترة كأنها تقاوم شيئا غير مرئي.
ناداها
انتظري!
توقفت لكنها لم تلتفت.
قال بصوت هادئ
أنا آسف على ما حدث أمس. ما كان ينبغي أن أزعجك.
تنهدت وقالت
ليست مشكلتك يا إيميكا.
سألها وكأن السؤال خرج منه قبل أن يفكر
إذا لماذا تدفعين الجميع بعيدا مم تخافين
ظل السؤال معلقا بينهما. استدارت ببطء وفي عينيها لمعان لم يستطع أن يسميه خوفا أم حزنا أم تحذيرا.
قالت
لن تفهم.
أجابها وهو يفاجئ نفسه
إذن اجعليني أفهم. دعيني أحاول.
للحظة بدت وكأنها ستبكي ثم همست
أنت طيب يا إيميكا لكن الطيبة لا تعيش قربي.
ثم مضت بسرعة وتركته واقفا عاجزا عن الكلام.
في ذلك المساء عادت آداورا إلى البيت مبكرا. كان المنزل ساكنا. أمها غائبة أسبوعا لحضور طقس عائلي في القرية الأصلية. لم يبق معها إلا جدتها ماما نغوزي.
في المطبخ كانت الجدة تحرك قدرا من الأعشاب تتمتم بأدعية خافتة. رفعت رأسها حين دخلت آداورا.
قالت الجدة
لم تأكلي في المدرسة مرة أخرى.
أجابت آداورا
لم أشته الطعام.
حدقت الجدة طويلا في وجه حفيدتها ثم قالت
الأحلام تشتد أليس كذلك
ترددت آداورا ثم قالت
نعم يا جدتي. رأيتهم مرة أخرى.
تصلبت ملامح الجدة
الأرواح قلقة. أنت تقتربين من عيد ميلادك السابع عشر. في ذلك العمر تستيقظ الأفعى في داخلك كاملا.
انفجرت آداورا بحدة لم تعهدها
لا أريدها! أكرهها! لماذا لا أعيش مثل بقية الفتيات
قالت الجدة بحزم
لأنك لست مثل الجميع. أنت إيكه آدا ابنة سلالة ملكة الأفعى. الموهبة تجري في دمك. يمكنها أن تشفي ويمكنها أن تهلك.
انكسر صوت آداورا
أنا لم أطلب أي موهبة أنا فقط أريد أن أكون حرة.
مدت الجدة يدها ولمست خدها برفق
حرية بلا حقيقة تصبح لعنة. سيأتي يوم يرى فيه الفتى الذي تدفعينه بعيدا حقيقتك. وعندها سيكونخيارك هو الفارق.
تجهمت آداورا
أي فتى
ابتسمت الجدة ابتسامة حزينة
ذاك الذي تلين عيناه حين ينظر إليك. ذاك الذي قد ينقذك أو يتدمر بسببك.
تراجعت آداورا خطوة وكأن اسما خفيا ضربها
إيميكا
في تلك اللحظة فاض القدر فجأة وتصاعد بخار أخضر ملأ المكان برائحة حادة ترابية قديمة. التفتت الجدة إليه ثم قالت
اشربي هذا الليلة. سيهدئ الأفعى. لكن تذكري كبتها طويلا سيجعلها أشرس.
أخذت آداورا الكأس وكانت يداها ترتجفان.
في الأسبوع التالي هطلت أمطار غزيرة. تدحرج الرعد فوق الأسطح وشق البرق السماء كعروق من نار. احتشد الطلاب تحت الملاجئ يضحكون ويتذمرون من الطقس.
لكن آداورا غابت مجددا.
لم يستطع إيميكا الجلوس. كان شيء عميق في داخله يهمس أن الأمر ليس غيابا عاديا. وحين رن الجرس الأخير خطف مظلته وركض وسط المطر.
كان بيت آداورا قرب أطراف البلدة تحيط به أشجار الموز وصمت ثقيل. وصل إلى البوابة وملابسه تقطر ماء. نادى
مرحبا
لم يجبه أحد. لاحظ أن الباب الأمامي موارب.
دخل بحذر. كانت شموع ضعيفة تلمع والهواء مثقل برائحة الأعشاب والدخان. ثم سمعه فحيحا منخفضا متكررا ليس من فم إنسان.
همس وهو يتقدم خطوة
مرحبا
تبع الصوت حتى وصل إلى غرفة آداورا وهناك تجمد.
كانت آداورا راكعة على الأرض ترتجف. كانت أصابعها تخدش ذراعيها كأنها تحاول اقتلاع شيء من داخلالجلد. كان ضوء أخضر ينبض تحت بشرتها. وكانت عيناها تتوهجان بصفرة خافتة. وعلى الأرض





