قصص قصيرة

وُلِدَ ابنُ الملياردير أصمّ لا يسمع حتى اكتشفت الخادمة سرًّا صادِمًا غيّر كل شيء.

في الضواحي الضبابية لولاية كونيتيكت، كان قصر سيباستيان كالواي المترامي الأطراف يبدو كقلعة من زمنٍ آخر، تتدلّى عليه نباتات اللبلاب، وتزيّن شرفاته الحجرية منحوتاتٌ قديمة تلمسها أنوار الصباح بخفوتٍ ورهفة. غير أنّ هذا الجمال كان يخفي وراءه صمتًا خانقًا. لم يكن صمت البيوت الهادئة، بل الصمت الذي يخلّفه الحزن حين يستولي على الأنفاس والقلوب. صمتٌ عاش في القصر طوال ثماني سنوات، منذ ولادة لوسيان، الابن الوحيد لسيباستيان، الذي لم يسمع يومًا صوتًا واحدًا.
لا كلمة، ولا ضحكة، ولا حتى خشخشة ورق على نافذة.

تتابع الأطباء من نيويورك إلى جنيف، وكلّهم نطق بالحكم ذاته:
عجزٌ خلقيّ لا رجعة فيه. لا سبيل للعلاج.

حاول سيباستيان أن يتقبّل الحقيقة، غير أنّ القبول نعمة لا يملكها كل أبٍ منكسر. فقد رحلت زوجته، أميلي، أثناء الولادة، تاركةً خلفها رجلًا مُثقلًا بالثروة، وفقيرًا في كل شيء آخر. لم يبقَ له سوى طفل سجين صمته.
أنفق الملايين، حجز مواعيد في أشهر العيادات، سافر إلى أبعد المدن، جلس في قاعات الانتظار المذهّبة، يسمع في كلّ مرة الجواب ذاته، بلا بصيص أمل.

ولم يكن يعلم أنّ الحلّ لن يأتي من المال، ولا من المخابر المتطوّرة،بل من امرأة بسيطة تحمل قلبًا يقظًا… اسمها مارينا لانغفورد.

مارينا، شابّة في السادسة والعشرين، تعمل مشرفة على شؤون القصر والصيانة. لم تحمل شهادة، ولم تتلقَّ تدريبًا طبيًّا، وكل ما تملكه كان إصرارًا على ألا يمرّ الألم أمامها دون أن تراه. كانت تعيل جدّتها المريضة، وتعمل ساعات طويلة، تسير بخفّة داخل القاعات الفسيحة، لكنّ عينيها لم تتجاهلا يومًا ذلك الطفل الصغير الجالس وحيدًا على الدرج الرخامي، يمرّر أصابعه على أذنه، وتعلو وجهه ملامح وجعٍ مكتومٍ يتكرر بلا تفسير.

منذ أسبوعها الأول، لاحظت مارينا ما لم يلحظه الأطباء. ظلًّا داكنًا في عمق قناة الأذن، خافتًا، يصعب التقاطه بالعين المجرّدة، وربما غاب عن أجهزة الفحص لأنه امتزج بجدار القناة. لم تكن متأكدة، لكنّه شيء… شيء لا يشبه التشخيص الطبيّ الجازم الذي سمعه الأب مرارًا.

مرّت الأيام وهي تراقبه.
كان لوسيان يبني عوالم هشّة من القطارات الصغيرة والطائرات الخشبية والألغاز المتشابكة.
كان الخدم يتجنبونه، لا خوفًا منه، بل خوفًا من الحزن الذي يحيط به. نسجت الشائعات أنّ صمته مرتبط بموت والدته، وأنّ روحه انغلقت منذ ولادته.
لكن مارينا رأت غير ذلك؛
رأت طفلًا يتوق إلىالفهم، إلى اللمس، إلى المعنى، وإلى شيء لم يعرفه يومًا… الصوت.

تعلّمت لغته الصغيرة.
إشارته بلمستين على صدره تعني السعادة.
الإشارة إلى النافذة تعني الفضول.
ضمّ اليدين تعني الأمان.
وبينهما نشأت لغة لا يفهمها أحد سواهما.

وفي أحد الأيام، ارتجفت يد لوسيان فجأة، وعانق أذنه بقبضته، وانهالت دموعه بلا صوت.
هرعت إليه مارينا، ركعت أمامه، تنطق بكلمات لا يسمعها، لكنها تعبّر عنها بعينيها ويديها:
«لن أؤذيك. أثق بي.»

تردّد قليلًا، ثم استسلم للمسة يدها، وفي عينيه رجاء طفل تعب من الألم.

وعندما فحصت أذنه، رأته واضحًا:
كتلة سوداء كثيفة، لامعة بخفوت، متصلّبة بفعل السنين.
كتلة لا يمكن أن تكون طبيعية.
كتلة كانت بشكل مرعب تحجب العالم عنه.

ارتجف قلبها.
هل تزيلها؟
هل تتجرأ؟
هي ليست طبيبة، وأي خطأ قد يكلّفها وظيفتها، وربما سلامة الطفل نفسه.
لكن تركه هكذا… كان خيانة لا تحتمل.

تذكّرت قريبها جوليان الذي عاش ست سنوات صامتًا قبل أن يكتشف الأطباء أنّ السبب مجرد انسداد بسيط.
تذكّرت وعدًا قطعته لنفسها بعد وفاة أخيها في الرابعة عشرة: ألا تتجاهل ألم طفلٍ ما دامت قادرة على أن تنقذه.

تردّدت طويلًا، وفي تلك الليلة، اتخذت قرارًاسيغيّر حياتها وحياة الطفل.
عقّمت ملقطًا من حقيبة الإسعافات، تنفّست بعمق، ودعت الله أن يلطف بها.

مع الفجر، كان لوسيان يتلوّى من ألم جديد، جالسًا على المقعد الحجري في الحديقة.
اقتربت منه مارينا بلطف، شرحت له بالإشارات ما تنوي فعله.
كان خائفًا… ولكنه وافق.

مدّت يدها إلى أذنه.
كانت الكتلة لزجة، متشبّثة، تتطلب ثباتًا حديديًا.
نابض قلبها في صدغيها، لكنها تابعت، شيئًا فشيئًا… حتى خرجت الكتلة كاملة وسقطت في كفّها.

وفي اللحظة نفسها، شهق لوسيان.
شهقة حقيقية.
شهقة مسموعة.

رفع لوسيان يديه الصغيرتين إلى أذنيه، وكأنّهما لم يعودا جزءًا منه، بل نافذتان انفُتحتا فجأة على عالمٍ ظلّ محرومًا منه طوال ثماني سنوات.
اتّسعت عيناه في دهشةٍ أقرب إلى القداسة، دهشة طفل يشهد خلق الكون أمامه للحظة الأولى.
كانت الأصوات تتدفق نحوه بلا ترتيب، بلا سابق إنذار: زقزقة الطيور المتشابكة عند أسطح القصر، ارتجاف أوراق الأشجار تحت أنفاس الريح، وقع خطوات أحد الخدم في الممر الحجري، أنين الأرض تحت وزن الهواء… ثم—كالضربة الأولى في سيمفونية حياة تأخرّت طويلًا دقات الساعة الكبيرة في القاعة الرئيسية.

ذلك الصوت وحده كاد أن يخلخل روحه.
ظلّيحدّق في الفراغ، شفاهه ترتجف، كأنه يحاول الإمساك بالصوت بين أصابعه.

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock