
كان الابن الصغير للملياردير يتألّم بلا توقّف إلى أن نزعت المربية شيئًا غامضًا من رأسه.
قبل أن تلامس خيوط الفجر الأولى حي سانتا كاسكادا الثري انشق الصمت داخل القصر الحجري بفعل صرخة جعلت النوافذ ترتجف. كان مصدر الصرخة هو فيليكس الطفل ذو الثمانية أعوام المنكمش تحت طبقات من البطانيات وقد انغرست أصابعه الصغيرة في الوسادة كأنه يحاول الهروب من جسده نفسه. اندفع جوناس إلى داخل غرفة النوم وملامحه مشوهة بالرعب. لقد أمضى ليالي طويلة بهذه الحالة لكن الصدمة كانت تعصف به في كل مرة كما لو كانت الأولى.
قال وهو يركع إلى جوار السرير
فيليكس فيليكس انظر إلي. أخبرني أين يؤلمك.
لم يكن الطفل قادرا إلا على إصدار أنين خانق وهو يضغط بكلتا يديه على أعلى رأسه. وقف خلف جوناس فريق من الأخصائيين يحمل كل منهم جهازا لوحيا يعرض صور دماغية ملتقطة في معهد سانتا كاسكادا لطب الأعصاب. هز سيمون كبير أطباء الأعصاب رأسه ببطء.
قال سيمون
لا يوجد سبب عضوي يا سيدي. البنية الدماغية طبيعية. نحن نتعامل مع حالة نفسية جسدية حادة.
دفن جوناس وجهه بين يديه وقال بصوت مكسور
إذا لماذا يبدو وكأنه يموت أمامي
كانت باولا تقف في مؤخرة الغرفة مثل ظل صامت لا يكاد أحد من الطاقم الطبي يلتفت إليها. انضمت إلى المنزل منذ شهرين فقط. جذورها متواضعة وخبرتها متجذرة في تقاليدعلاجية ريفية لا تعتمد على التكنولوجيا. ومع ذلك كانت عيناها تلتقطان كل ما تعجز الآلات عن فهمه. رأت الارتجاف الخفيف في ساقي فيليكس. رأت الطريقة الدقيقة التي كان يضغط بها أصابعه على النقطة نفسها في فروة رأسه. رأت الخوف خوفا لا يصدر عن ألم متخيل بل عن شيء حقيقي.
وعندما غادر الأطباء لتعديل الجرعات الدوائية اقتربت باولا من جوناس بحذر.
سيدي هل لي أن أقول شيئا
أومأ دون أن يرفع رأسه.
قالت بصوت منخفض
لا أظن أن هذا في عقله. ألمه له مكان محدد. موقع يشير إليه في كل مرة.
دخلت إيرين الغرفة قبل أن يجيب جوناس. كانت خطوات كعبها ترن فوق الرخام وعطرها نافذا وصوتها يحمل السلطة التي اعتادت ممارستها في القصر.
قالت بنبرة باردة
باولا لقد أخبرتك مرارا. فيليكس شديد الحساسية. لمس رأسه خطر. لا تقتربي منه دون قفازات.
انحنت باولا قليلا.
نعم سيدتي.
لكن شيئا في عيني إيرين شد معدة باولا. لم يكن قلقا بل ضيقا. انزعاج امرأة لا تحتمل أن يشك أحد في روايتها.
في تلك الظهيرة بينما كان جوناس يجري اتصالا في مكتبه رافقت باولا إيرين أثناء تجهيزها لحوض استحمام الطفل. وقفت المربية خارج الباب تستمع إلى صوت الماء المتدفق والأنين المكتوم.
قالت إيرين بصوت مرتفع
هو يكره الماء اليوم. يثير أعصابه.
لكن باولا أصغت جيدا. تلك لم تكن أنين خوف بل صرخات ألم. قبضت على يديها بقوة. حينها فهمت. قاعدة القبعة الصوفية. قاعدة منع لمس الرأس. قاعدة القفازات. لم تكن قوانين للحماية بل للإخفاء.
وفي تلك الليلة
بينما كان فيليكس يترنح تحت تأثير المهدئات فتح عينيه نصف فتحة وهمس بصوت متشقق
يؤلمني هنا.
ارتفعت يده المرتعشة ولمست قمة رأسه. ثم انتفض جسده في موجة ألم ساحقة.
تجمدت باولا. واقتربت وهمست
أراك يا صغيري وأصدقك.
في اليوم التالي تدخل القدر. خرجت إيرين إلى حفل خيري. واحتجز جوناس في اجتماع دولي. أصبح القصر هادئا على غير العادة إلى أن شقت صرخة جديدة أرجاءه. لم يكن هناك وقت لاستدعاء الأطباء. ركضت باولا صاعدة السلالم. وجدت فيليكس ملقى على الأرض يشد القبعة عن رأسه.
قال وهو يبكي
لا لا أوقفيه. أرجوك.
ركعت باولا أمامه واحتضنت وجهه برفق.
سأساعدك همست. أعدك.
سقطت في تلك اللحظة كل القواعد. الخوف من الطرد. تهديدات إيرين اليومية. كله تبخر. رفعت باولا القبعة الصوفية وشعرت بجسد الطفل يقشعر تحت أصابعها.
قال فيليكس بصوت خافت
باولا أرجوك.
نزعت القبعة.
انحشر الهواء في صدرها. تحت خصلات الشعر على قمة رأسه كانت هناك منطقة ملتهبة. ليست طفحا بل جرحا. وفي مركزه نتوء صلب صغير.
قالت بصوت مرتجف
ما هذا أحدهم فعل هذا بك.
ذهبت وأحضرت وعاء من منقوع الأعشاب كانت قد حضرته في سر متحدية القوانين المعقمة. ملأ البخار الغرفة برائحة البابونج. نظفت الجرح برفق. تأوه الطفل لكنه لم يقاوم.
ثم لامست أصابعها شيئا قاسيا تحت الجلد. شيئا حادا.
قالت بهدوء
فيليكس اثبت مكانك. أنت شجاع.
استدار مفتاح في الباب. كان صوت جوناس يهدر من الخارج
باولا! افتحي هذا الباب الآن!
لم تلتفت إليه. أمسكت بملقط من العلبة الطبية. عقمته بيد مرتجفة. اقتحم جوناس الباب لكن باولا رفعت يدها في وجهه.
صرخت
انظر! لا توقفني. انظر إلى ابنك!
تجمد في مكانه.
أمسكت باولا الطرف البارز وسحبته. صرخ الطفل. ثم تراخى جسده بين ذراعيها. لكنها لم تتوقف. وعندما رفعت الملقط شهق كلاهما في رعب.
شوكة صبار. طويلة. سوداء. بطول خمسة سنتيمترات تقريبا.
انهارت ركبتا جوناس.
يا إلهي ما الذي تفعله هذه في رأسه
قالت باولا
أحدهم وضعها هنا عمدا.
تدفق الإدراك إلى ملامح جوناس ببطء كأن كل فكرة كانت صفعة توقظه من غيبوبة امتدت شهورا.
القبعة الصوفية التي لم يسمح أحد بنزعها.
القواعد الصارمة التي فرضتها إيرين بحجة الحساسية المفرطة.
العزلة اللمسية التي عانى منها الطفل.
المرض المفاجئ الذي





