روايات

حب معلق بقلم اسما

في الأول كنت بضحك كل ما تقول كده، لحد اليوم اللي شُفتها فيه بتطوي البطانية بهدوء، بالظبط الساعة ١١:٤٧، وتخرج من أوضتنا كإنها بتهرب من مصيبة. ساعتها حاجة جوايا اتغيّرت.
مي عندها أربعة وتلاتين سنة، هادية، قليلة الكلام، من النوع اللي بيكره الدوشة والزعيق.

بس كل ليلة جمعة، بتتصرف كأنها داخلة على امتحان ما سجّلتش نفسها فيه أصلًا.

النهاردة كمان شالت بطانيتها ودخلت بيها أوضة الضيوف، وأنا اتفرجت عليها وهي بتفتح الباب بالراحة، كأنها خايفة هوا الطرقة ينطق ويتكلم.

باب سارة كان مقفول بالمفتاح كالعادة. سارة بنت مي، مراهقة، نظرتها حادة، وشايفة أكتر من اللازم على سنها.

لما بسلم عليها صباح الجمعة، ترد عليا بضحكة مصطنعة، كأنها بتحاول تغطي على حاجة.

البيت كله بياخد جو توتر غريب، كأن كل الناس حابسة نفسها… ما عداي أنا.

أفضل واقف أسأل نفسي:

هو مي متعقدة من جوازها الأول؟

ولا بتخوني؟

ولا مخبية عليّا حاجة أكبر من كل ده؟

صباح السبت، ترجع مي طبيعي خالص؛ تتكلم عن الفطار، والغسيل، وتخطط لآخر الأسبوع، كإن ليلة الجمعة دي عمرها ما حصلت.

سارة عدت جنبنا وهي رايحة تشرب الشاي، ما بصّتش في وشي تقريبًا، كانت عينيها معلقة بأمها، كأنها مستنية منها إشارة.

الهدوء في البيت كان هدوء زيادة عن اللزوم… شبه بلاستر متغطي على جرح لسه نازف.

كل حاجة بدأت تاخد شكل في دماغي لما الحاجة أم حسن، جارتنا، وقفتني عند باب العمارة.

قرّبت مني وخفّضت صوتها وقالت:

– يا مازن… إن شاء الله كله تمام عندكم؟ مراتك كل يوم جمعة تلاقيها مستعجلة ورايحة جاية بسرعة، كإنها بتهرب من حاجة. قلت أطمّن بس.

ضحكت لها، بس بطني اتقلّبت.

هي مي بتهرب من إيه بالظبط كل جمعة؟

بعدها بكام يوم، كنت قاعد مع كريم صاحبي في كشك كبدة وسجق على أول الشارع في مدينة نصر. كريم صاحبي من زمان، واللي على لسانه على طول.

حكيت له على كل اللي بيحصل، ما استغربش ولا حتى رمش.

قال وهو بيقطع حتة الكبدة من الرغيف كأنه بيخلص خناقة:

– بص يا صاحبي… فتح عينيك كويس. الحركات دي… ساعات بيبقى وراها راجل.

يوم الحد، منى أختي الصغيرة – اللي عمرها ما عرفت تكتم حاجة – جات لنا من غير معاد.

أول ما دخلت، حست بتوتر مي من أول نظرة، وسحبتني على جنب في الصالة:

– اسمع يا مازن… مراتك مخبية حاجة. خليك صاحي وافتح عينك.

الليلة دي، وأنا نازل المطبخ بالليل علشان أشرب ميّه، سمعت صوت سارة بتوشوش من ورا باب أوضة مي، صوتها كان متوتر ومستعجل:

– ماما… هو هييجي تاني النهارده؟

قلبي تقريبًا وقف.

بس الصدمة الحقيقية ما جاتش غير بعد ساعات، حوالي الساعة عشرة ونص بالليل، لما خرجت أرمي الزبالة.

شُفت مي – مراتي – وهي بتتسلل من باب المطبخ الخلفي، عينيها بتبص يمين وشمال، كإنها داخلة تقابل خطر.

واتفاجئت بيها ماشية ناحية راجل واقف مستنيها عند باب العمارة من تحت.

الجزء الأول – مواجهة الظل

وقف قلبي وأنا شايف مي ماشية ناحية الراجل اللي واقف مستنيها تحت.

كنت مستخبي ورا شجرة صغيرة عند مدخل العمارة، مصدوم… مش قادر أصدق اللي بشوفه.

كانت لابسة إسدال خفيف، مش اللي بتلبسه في البيت، لأ… كأنها خارجة فعلاً، وكأن الليلة دي مش بداية هروب… بل موعد.

الراجل كان واقف في الضلمة، ملامحه مش واضحة، بس جسمه باين… طويل، ضخم، واقف ثابت، كأن الأرض ملكه.

مي وقفت قصاده، ووشّها كان غريب… مش وش واحدة رايحة تقابل حد مسروق ولا خايفة… لا… كان في مزيج بين الرهبة والالتزام… كإنها مضطرة… أو كإنه شيء بيحصل كل جمعة… وهي مش قادرة توقفه.

حسيت بدمي بيغلي، ودماغي بتولّع:

– يبقى كريم كان عنده حق؟

– في راجل في الموضوع؟

– ولا الليلة دي فيها سر تاني أبشع من الخيانة؟

كنت هتقدم عليهم فجأة… لكن حاجة جوّا قلبي قالتلي:

“استنى… اتفرّج… افهم قبل ما تواجه.”

الراجل اتقدم خطوة ناحيتها.

مي نزلت راسها.

قرب منها أكتر… خطوة ورا خطوة… لحد ما بقى بينه وبينها شبر واحد.

أنا حرفيًا كنت هاوقع من مكاني.

فجأة… اتكلم.

صوته كان غليظ، عميق، صعب أحد ينساه:

– جه الوقت… ولا هتكملي لعب عيال؟

مي رفعت وشّها، صوتها كان خافت بس واضح:

– بلاش هنا… قلت لك بلاش هنا.

رد وهو بيبص حوالين الشارع:

– زي كل مرة… خوف على جوزِك؟

مي سكتت.

أنا حسيت الدنيا بتسودّ حوالي.

جوزك؟!

يعني عارفني؟

يعني فيه حاجة بينهم من زمان؟

ولا بيهددها بيا؟

مي قالت بصوت مرعوب:

– خلّينا نمشي من هنا… قبل ما حد يشوفنا.

الراجل لفّ ودّى ضهره للعمارة.

مي مشت جنبه…

وخرجوا من الشارع.

وأنا…

أنا ماقدرتش أمشي وراهم…

رجلي رفضت تتحرك…

والأرض بتلف بيّ.

رجعت البيت، وأنا مش قادر أتنفس.

دخلت على أوضتنا… ريحة مي لسه موجودة… الفوضى لسه زي ما هي… والساعة قربت على ١٢… ليلة الجمعة اللي عمرها ما نامت فيها جنبي.

الليل كان طويل… أطول من أي ليلة في عمري.

الجزء الثاني – أثر تحت الباب

صحيت تاني يوم السبت بدري رغم إني ما نمتش.

الميه على وشي ما فاقتنيش… مخّي لسه محبوـ,,ــــس في الشارع برا… في الراجل اللي كان معاها.

خرجت من الأوضة… لقيت سارة قاعدة في الصالة، بتشرب شاي وبتقلب في الموبايل.

بس وشّها… كان متوتر.

بصيت عليها وقالتلي:

– صباح الخير يا مازن…

نبرة صوتها كانت محاولة للهدوء… محاولة فاشلة.

قلت:

– فين مامتِك؟

بلعت ريقها:

– نايمة… تعبانة شوية.

تعبانة؟

طبعًا… ليلة كاملة برّه.

مع مين؟

وفي إيه؟

الصمت بينا كان تقيل… تقيل لدرجة إنه كان يخوّف.

بعد ساعة سمعت باب أوضة مي بيتفتح.

خرجت، وشعرها مفكوك، ووشها شاحب، لكن عينيها… كانت بتتجنب عينيّ.

قالت بصوت بارد:

– صباح الخير.

رديت بنفس البرود:

– صباح النور.

دخلت المطبخ…

وقعدت أرقبها وهي بتعمل شاي لنفسها، إيدها بترتعش، ومش قادرة تثبت الكوباية.

سألتها:

– كنتي فين امبارح؟

وقفت…

وإيدها جمدت.

رجعت تبص في الكوباية…

وقالت الكلام اللي كنت عارف إنه جاي:

– كنت في أوضة الضيوف… نايمة.

ابتسمت.

ابتسامة باردة مؤذية:

– نايمة؟

– بليل كامل؟

– وفي نفس الوقت كنتِ خارجة من الباب الخلفي؟

اتجمدت.

الدم اتسحب من وشها.

عينيها اتسعت.

– إنت… إنت كنت صاحي؟

– كنت صاحي… وشوفتك.

سقطت الكوباية من إيدها…

واتك*سرت.

سارة جريت من الصالة:

– في إيه؟

مي ما ردتش…

كانت بتبص لي… النظرة دي… نظرة حد انكشف… وانفتح سره… ومع ذلك… مش قادر يحكي.

قلت:

– مي…

– الراجل اللي كنتي معاه… مين ده؟

سقطت على الكرسي…

إيديها على وشها…

ودموعها نازلة بدون صوت.

وسارة…

سارة كانت واقفة بتترعش.

قلت لها:

– انتي عارفة حاجة يا سارة؟

– مين الراجل ده؟

سارة صرخت:

– سيبنا في حالنا يا مازن! سيبنا… ماما مش غلطانة!

مي قامت بسرعة، مسكت إيد بنتها:

– دخّلي أوضتك يا سارة… دخّلي حالًا.

سارة بدأت تعيط:

– بس يا ماما… هتعرفي تعملي إيه لو…

صرخت مي:

– ادخلي!

سارة جريت، والباب اتقفل بعنــ,,ـــــف.

مي مسحت دموعها… وقعدت قدامي…

وقالت بصوت متقطع:

– مازن…

– أنا عمري ما خنتك.

– ولا عمري هخونك.

رديت:

– طب مين الراجل ده؟

هزّت راسها:

– ماقدرش أقولك… مش دلوقت.

صرخت أنا:

– لأ… دلوقتي!

– دلوقتي يا مي مش بكرة!

– الراجل ده مين؟

– وبيجي ليه كل جمعة؟

– وليه بنتك خايفة منه؟

– وليه كل أسبوعكوا بتتغير يوم الجمعة؟

– وليه جارتنا قالت عليكي إنك بتهربي من حاجة؟

– وليه كنتي بتتقابلي معاه برّه؟

– مين…

– الراجل…

– ده؟!

مي وقفت، ومن الواضح إنها كانت بتنهار:

– لو قولتلك… مش هتصدق.

– ولو صدقت… مش هتستحمل.

أنا اتجننت:

– قولي يا مي!

– قولي قبل ما الدم يغلي أكتر!

وقفت…

وبصتلي نظرة مرعبة… خليت رجلي تتشل:

– ده…

– مش حد غريب.

– ده…

– جوزي الأول.

الهوى في ص*دري توقف.

كأن حد ضر*بني بمطرقة.

قلت بصوت مبحوح:

– جوزك… الأول؟

– اللي ميت؟

دموعها نزلت…

وقالت:

سكت…

سكوت طويل…

كنت سامع صوت قلبي بس…

وأنفاسي…

وارتباك البيت كله.

قلت بصوت واطي جدًا:

– “لسه موجود”… يعني إيه؟

مي جلست…

وبصت للأرض.

– اسمع يا مازن…

– يمكن تفتكرني مجنونة…

– بس اللي هقوله ده… الحقيقة.

سكتت شوية…

وبعدين بدأت:

1. البداية

– كنت متجوزة من “إيهاب”.

– جواز أهالينا… بس كنا بنحب بعض بجد.

– كنا عايشين في شقة صغيرة في المطرية…

– كان راجل طيب… بس عليه ديون… كتير.

– وكان في ناس بتطالبه، وكان بيخاف…

– وفي يوم…

– اختفى.

– إزاي؟

– خرج من البيت… وما رجعش.

– بعد كام يوم…

– لقّوا ج*ثته في مخزن مهجور.

– الشرطة قالت إنها “جريمة سر*قة”.

– بس…

– ده ماكانش السبب الحقيقي.

سألتها وأنا جسمي بيتنفض:

– طب إيه الحقيقة؟

قالت بصوت مرعوب:

– إيهاب…

– ما مـ,,ــاتش موـ,,ــــتة طبيعية.

– كان فيه دجّال…

– راجل شرير…

– إيهاب اتعامل معاه…

– عشان يحل مشاكله…

– بس الدجّال ده…

– أخده…

– أخده بشكل…

– ماكانش فيه روح.

– وبقى…

– حاجة تانية.

سكتت.

أنا حسيت إني تايه.

مش فاهم…

وبنفس الوقت…

فيه حاجة جوايا بتقول إن كلامها مش هزار.

قلت:

– طب… إيه علاقة ده باللي حصل امبارح؟

مي بصتلي مباشرة، وقالت:

– إيهاب…

– بييجي يوم الجمعة.

– مش بيدخل البيت…

– بس بينده.

– وأنا…

– لو ما طلعتش…

– بيحصلي اللي محدش يتحمله.

رجعت بظهري لورا.

– يعني…

– الراجل اللي شُفته…

– ده جوزك الأول؟

هزّت راسها:

– شكله…

– جسمه…

– بس…

– روحه…

– مش روحه.

حطيت إيدي على وشي…

مش عارف أصدق ولا أرفض…

بس الليلة اللي فاتت…

كانت واقعية…

مش وهم.

الجزء الرابع – مواجهة سارة

باب أوضة سارة اتفتح فجأة.

طلعت منها…

وشها باين عليه إنها كانت بتعيط.

بصت لمى…

وقالت بصوت متوتر:

– خلاص يا ماما؟

– قولتيله؟

مي مسحت دموعها:

– أيوه يا حبيبتي… قولتله.

سارة بصت لي…

وللمرة الأولى من يوم ما عرفتها…

وجهها ماكانش فيه ولا برود.

كان فيه خوف طفل…

طفل شايف كوابيس محدش بيصدّقه فيها.

قالت:

– عمري ما كنت عايزة تعرف كده…

– بس هو لازم يعرف…

– لازم…

– قبل ما يحصل اللي كلنا خايفين منه.

قربت منها…

وقولت:

– خايفين من إيه يا سارة؟

سكتت…

وبعدين قالت:

– من الجمعة الجاية.

الجزء الخامس – الجمعة التي لا تُخطئ

فضلت سارة واقفة، عينها على الأرض، ومي واقفة وراها، ووشّها شاحب كأنها خارجة من عاصفة.

سألتهم بصوت واطي لكنه مليان غض*ب:

– الجمعة الجاية… في إيه؟

مي ابتلعت ريقها بصعوبة:

– الجمعة الجاية…

– هي اللي بييجي فيها إيهاب… بشكل أشرـ,,ــــس.

سارة قطعت كلام أمها:

– الجمعة الجاية…

– هي اللي أول مرة هيعرف إنك موجود يا مازن.

اتسعت عنيّا:

– يعني إيه؟

– هو ما يعرفش إني جوزك؟

هزت سارة راسها:

– ماما كل جمعة كانت بتخرج من البيت قبل ما ينزل…

– عشان ما يشوفش رجّالة في البيت…

– ولا يشم ريحتهم حتى.

مي قالت:

– إيهاب… لما بيتجسّد…

– بيبقى غض*بان…

– غض*بان قوي…

– وأكتر حاجة بتخليه يتحوّل…

– إنه يحس إن فيه حد…

– خدّ مكانه.

جسمى اتجمّد.

الميّة بردت ونسيت إني حتى بعرف أتنفس.

قلت:

– يعني…

– هو…

– بييجي كـ«غيور»؟ كراجل؟

– مش كروح؟

مي بصوت مرعوب:

– لأ…

– مش غيرة طبيعية…

– غيرة روح اتحبست بين الدنيا والآخرة…

– غيرة حد… اتجرح قبل ما يموـ,,ــــت…

– ومرّ على حد اتعذّب…

– وفضل شايل الغل ده…

– لحد ما بقي…

– زي ما شُفته امبارح.

سارة بصوت متقطع:

– وإحنا كل جمعة بنخبيك.

– بننام بدري…

– ونقفل على نفسنا…

– ونستنى الصبح.

قربت منهم خطوة:

– والراجل اللي شفتوه تحت…

– ده جسم؟

– ولا روح؟

1 2 3 4 5 6الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock