قصص قصيرة

لحـن القـوه… حكايات اسما

ولأول مرة، شعر بشيء يشبه الخوف.

أما في مكان آخر، بعيد عن كل هذا، كانت دنيا تستيقظ ببطء.

ضوء أبيض، رائحة مطهرات، وصوت جهاز يرن بانتظام.

فتحت عينيها، فوجدت الحاجة أم حسن جالسة بجوارها، تمسك يدها بحنان.حمد لله على السلامة يا بنتي.

حاولت دنيا أن تتكلم، لكن صوتها خرج ضعيفًا:مريم؟

ابتسمت الحاجة أم حسن:في الحضانة.

بنت قوية رغم ضعفها زي أمها.

انسابت دمعة على خد دنيا، لكنها لم تمسحها.

قالت بصوت مبحوح:أنا مش هرجعله.

هزت الحاجة أم حسن رأسها بتفهم: احسن اوعي تضعفي دا كلب ايامي ترجعي.اللي يسيبك في وجعك، ما يستاهلكيش.

بعد أيام قليلة، خرجت دنيا من المستشفى.

لم تعد إلى بيت الزوجية، بل ذهبت إلى شقة صغيرة كانت الحاجة أم حسن تعرف صاحبتها.

شقة متواضعة، لكنها دافئة، وفيها نافذة تطل على شجرة ياسمين.

هناك، بدأت دنيا من جديد.

الأيام الأولى كانت قاسية.

جسدها متعب، قلبها مكسور، ومسؤولية طفلة صغيرة لا تعرف الرحمة.

لكنها كانت تستيقظ كل صباح، تنظر إلى وجه مريم، وتقول في سرها: علشانك أقدر اربيكي لازم اشتغل حقك عليا اشتغلت من البيت في الخياطة.كانت موهوبة، أصابعها تعرف طريقها إلى القماش.

بدأت تفصل فساتين بسيطة للجارات، ثم زادت الطلبات.

اسمها انتشر بهدوء، من غير صراخ، من غير ضجيج.

أما نسيم، فبدأت حياته تتفكك ببطء.

رنا لم تكن كما تخيل.الوعود التي أغرقها بها صارت عبئًا عليه.

طلبت، ضغطت، هددت. وفي العمل، بدأت الأخطاء تظهر.

عقود ضاعت، صفقات فشلت، وسمعته اهتزت.

وفي إحدى الليالي، جلس وحده في شقته، يشرب في صمت، والهاتف أمامه.فتح صور قديمة…صورة لدنيا وهي حامل، تبتسم رغم التعب.

توقف طويلًا عند الصورة..أين ذهبت تلك الابتسامة؟

وأين ذهب هو؟مرت ثلاث سنوات…مريم كبرت.

طفلة ذكية، بعينين واسعتين، وابتسامة تشبه الشمس.

كلما نادت دنيا ماما، وكأن الكلمة خُلقت لأجلها.

دخلت مريم الحضانة، وكانت دائمًا الأولى في كل شيء.

تحب الرسم، وتحب الحكايات، وتحب أن تمسك يد أمها بقوة.

وفي يوم، عاد نسيم للظهور…وقف أمام الشقة الصغيرة، مترددًا.

طرق الباب….فتحت دنيا….لم تتفاجأ…كأنها كانت تعرف أن هذا اليوم سيأتي…قال بصوت خافت:

عايز أشوف بنتي…نظرت إليه طويلاً.

ثم قالت بهدوء:بنتك؟ البنت اللي قلتلي ربيها لوحدك؟

خفض رأسه…قال بصوت مكسور:غلطت.

ابتسمت دنيا ابتسامة حزينة: الغلط بيتصلح لما يكون من غير قصد..مش لما يكون قسوة.

ظهرت مريم خلفها، تمسك طرف فستانها.

نظرت إليه ببراءة:مين ده يا ماما؟

شعر نسيم أن قلبه ينخلع من مكانه.

قال بصوت مرتعش:أنا بابا.

نظرت مريم إلى أمها، كأنها تطلب الإذن.

ضمتها دنيا إلى صدرها، وقالت: ده شخص من الماضي.

وأغلقت الباب. بعدها بأسابيع، وصلها خبر أن نسيم خسر كل شيء.

العمل، المال، رنا التي تركته عند أول سقوط.

جلس وحده، كما بدأ، لكن هذه المرة بلا أحد.

أما دنيا، فافتتحت مشغلًا صغيرًا باسم مريم.

كبر حلمها كما كبرت ابنتها.

لم تنتقم، لم تشمت، فقط عاشت.

وفي إحدى الأمسيات، جلست دنيا على الشرفة، ومريم بجوارها، تنظران إلى السماء.

قالت مريم:ماما، إنتي قوية جدا؟

ابتسمت دنيا، قبلت رأسها، وقالت: قويه بيكي ..علشان في بنت اسمها مريم، تستاهل أم تبقى قوية.وهكذا، أخذت كل واحدة حقها.دنيا بالحياة….مريم بالحب.

ونسيم بالوحدة التي صنعها بيديه.

والعدل، أحيانًا، لا يحتاج صوتًا عاليًا.

يحتاج فقط صبرًا… وكرامة….ولا تاسفن من الحق يا عزيزتي..اخذ الحق قوه.. سلسلة حكايات اسما السيد

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock