
ساعد امرأة عجوز تحت المطر… فاكتشف أنها أمّ المدير التنفيذي
على ظهر الكرسي ما زال يحتفظ برطوبة المطر.
وحين دخل لويس رفعت المرأة رأسها نحوه وابتسمت.
قالت بصوت مفعم بالعطف
كنت عارفة إنك رح ترجع. رح أعرفك لو مر ألف سنة. أنت الشاب من موقف الباص.
اقترب لويس وهو يشعر بأن شيئا ما ينهار ويبنى من جديد داخله في آن واحد.
سألها بلطف
كيف صرت الآن يا خالتي
مدت يدها نحوه فأمسك بها. كانت دافئة هذه المرة أقل هشاشة.
قالت
شكرا إلك يا بني. من زمان ما حدا وقف عشاني. كنت مفكرة رح أظل مرمية هنيك كأني ما إلي قيمة بس أنت شفتني.
امتلأ صدره بحرارة شبيهة بذلك الشعور القديم حين كانت أمه تحتضنه وهو صغير.
قال بخجل
ما عملت شيء عظيم يا سيدتي
هزت رأسها وقالت بحزم مفاجئ
بهالأيام اللي عملته عظيم. لا تخلي الدنيا تقسي قلبك. لا تخلي الهموم تغير طيبتك.
كان أرتورو يراقب المشهد من باب الغرفة بصمت وفخر واضح في عينيه.
قال بهدوء
أمي دايما كانت تقول إن الإنسان يعرف بأفعاله مو بكلامه واليوم ذكرتني أنت بهالشيء.
نظر لويس إليه. ولأول مرة منذ جاء إلى المدينة شعر أن تعب السنين وسهر الليالي وتضحياته لم تذهب هباء.
وحين خرج من المبنى كان المطر قد توقف.السماء لا تزال رمادية لكن خيوطا من الضوء بدأت تخترق الغيوم. الأرض المبتلة تعكس المباني كأنها مرايا طويلة من الماء.
تنفس بعمق. ملأ الهواء الرطب رئتيه لكنه هذه المرة لم يشعر بالاختناق بل بالراحة.
مشى ببطء وثيابه ما تزال مبللة لكن روحه كانت أخف بكثير مما كانت عليه حين جاء. كان قد دخل المبنى وهو يشعر بأنه مهزوم مقتنع بأنه خسر فرصته الوحيدة لكن مساعدته لامرأة غريبة فتحت له بابا لم يكن ليحلم به.
تذكر صوت أمه ذلك الصوت المرهق الذي حمل في نبرته سنوات من التضحيات والصبر
الدنيا قاسية بس لا تصير واحد من القساة.
كانت كلماتها في ذلك اليوم مجرد وصية عابرة لكنه الآن أدرك أنها لم تكن مجرد نصيحة بل كانت بوصلة طريقا ينير له الدرب حين تغمره العواصف. شعر وكأن صدى صوتها يعانق قلبه وسط شوارع المدينة الباردة فيعيد إليه شيئا من الدفء الذي افتقده طويلا.
ابتسم لنفسه ابتسامة صغيرة لكنها كانت مليئة بالفهم.
ربما كانت أمه تعرف منذ البداية ومن دون أن تقول مباشرة أن طيبته هي السلاح الوحيد القادر على تغيير مجرى حياته. لم تكن بحاجة لشرح ذلك يكفي أنها عاشت حياة قاسية ولم تسمح لها بأن تكسر إنسانيتها فأرادت له أن يحمل الشعلة نفسها.
وفي تلك اللحظة الهادئة أدرك لويس شيئا لا يدرس في الجامعات ولا يكتب في الكتب ولا يكتسب بالدرجات ولا الشهادات
أن أعظم الفرص في الحياة لا تأتي دائما متوجة بالتصفيق أو مرفقة بوعود لامعة بل تأتي أحيانا مختبئة داخل مواقف تبدو بسيطة قرارات تتخذ في لحظة وربما يراها الآخرون ضربا من السذاجة أو قلة حكمة.
لكن الحقيقة كانت أبسط وأعمق
أن تختار أن تكون إنسانا حتى عندما لا ينتبه أحد.
أحيانا تأتي الفرصة في صورة سيدة مسنة ترتجف على موقف حافلة تحت المطر
وأحيانا تأتي في صورة اختيار صغير
هل تمد يدك أم تمضي في طريقك
هل تتوقف للحظة أم تتظاهر بأنك لم تر شيئا
نعم مساعدته لتلك المرأة كلفته مقابلة عمل كان يعتبرها فرصته الأخيرة
لكنه لم يعرف أن تلك اللحظة بالذات كشفت لرجل نافذ ما لا تكشفه أرقى الجامعات ولا أذكى الخطابات ولا أثقل السير الذاتية
قلبا نقيا لا يساوم على الإنسانية.
وبفضل تلك المرأة الضعيفة الجالسة وحدها تحت الموت البارد للمطر انقلبت حياته رأسا على عقب.
لم تكن مجرد امرأة محتاجة كانت بابا مفتوحا نحو قدر لم يتخيله حتى في أحلامه الأكثر جرأة.
ومع كل خطوة يخطوها على الرصيف المبلل
ومع كل قطرة ماء تنزل من أطراف ثيابه الثقيلة
ومع كل نفس يملأ صدره ببطء
كان يشعر بشيء جديد يولد بداخله
شيء يشبه الضوء يشبه بداية فصل جديد
يشبه الحياة وهي تمنحه فرصة ثانية.
كان يشعر بالأمل
ليس الأمل الذي يأتي صدفة ولا الأمل الذي يستند إلى الحظ
بل الأمل الذي يولد من صميم الفعل الصحيح
الأمل الذي يشعر به الإنسان حين يضع رأسه على وسادته ويعرف أنه لم يخن ما تربى عليه
الأمل الذي يمنح المرء يقينا بأن نبل القلب لا يضيع سدى.
وفهم لويس شيئا أعظم
أن العالم رغم سرعته وجفافه وصخبه لا يزال يفهم لغة الطيبة ولو بعد حين.
وأن الإنسانية مهما ظن الناس أنها اختفت ما تزال تلمع كجوهرة صغيرة في لحظات معينة قد تغير حياة بأكملها.
وأدرك أن الحياة بطريقتها الغريبة والعادلة لا تترك شيئا دون أن تعيده لصاحبه
خيرا كان أو شرا.
وأن الله مهما طال الزمن يرد للإنسان ما فعله
أحيانا بطريقة لا يتوقعها
وأحيانا في اللحظة التي يكون فيها على وشك الانهيار.
وهكذا في تلك اللحظة وعلى رصيف مبلل
وبثياب ثقيلة ووجه مرهق
ولد داخل لويس معنى جديد للنجاح ومعنى جديد للإنسانية ومعنى جديد للحياة ذاتها.





