
الجميع خاف منها… إلا هو الحقيقة المرعبة خلف الفتاة التي أخفت سرّ الأفعى
لم يجرؤ أحد على فعله قبلها.
في لحظة واحدة انفجر كل شيء ضوء صوت طاقة كالعاصفة. اختفت الأفاعي. صار الهواء ساكنا.
وحين خفت الوهج كانت آداورا ممددة بلا حراك. اختفت الحراشف. صفا جلدها. وعادت عيناها بشريتين.
جلست ببطء وهي تلهث
إنه هادئ. الأفعى اختفت.
ابتسمت الجدة والدموع على وجنتيها
لا يا طفلتي لم تختف. لقد سكنت. صار بينكما سلام.
سأل إيميكا
ماذا حدث
قالت الجدة
الأفعى قبلت حبك. انكسرت اللعنة.
ومضت الأيام وتحولت إلى أسابيع. شفيت البلدة من خوفها. وتنفست آداورا حياة جديدة تدرس تضحك تمشي في الطرقات بلا أن تخفي وجهها.
عاد الناس يتهامسون لكن همسهم صار دهشة لا شماتة. بعضهم سماها آدا إيكه مباركة الأفعى وبعضهم اكتفى بأن يقول آداورا ويبتسم.
وفي مساء جلست تحت شجرة المانجو والتفتت إلى إيميكا قائلة
لم تتخل عني أبدا.
ابتسم إيميكا وكانت ابتسامته هذه المرة أهدأ من المعتاد كأنها خرجت من مكان عميق لم تطله السخرية يوما وقال بصوت يشبه الاعتراف
لم أستطع. سواء كنت إنسانة أو أكثر من ذلك أنت أجمل فتاة رأيتها.
ضحكت آداورا وكان ضحكها كضوء شمس يشق غيما ثقيلا ظل عالقا فوق قلبها سنوات. لم تكن ضحكة غرور ولا انتصار بل ضحكة من تذوق لأول مرة طعم النجاة دون أن يدفع ثمنها وحده.
رفعت حاجبها مازحة وفي طرف عينيها لمعة صغيرة لم يعرفها إيميكا فيها من قبل وقالت
ربما عليك أن تحذر ما زال في داخلي شيء من الأفعى.
غمز بعينه وتعمد أن يخفي رجفة خفيفة في قلبه خلف نبرة مرحة
جيد أنا أحب الخطر.
جلسا تحت شجرة المانجو العتيقة تلك التي شهدت وحدتها أولا ثم شهدت اقترابه منها خطوة خطوة. كانت السماء تتلون بالذهبثم تميل إلى برتقالي خافت والريح تحمل رائحة تراب مبتل كأن المطر مر هنا منذ قليل وترك أثره في الهواء فقط.
في البداية لم يتكلما كثيرا. كانت الكلمات تبدو أقل ضرورة من وجودهما الصامت بجانب بعضهما. إلا أن آداورا بعد دقائق طويلة رفعت يدها إلى خصلات شعرها تتحسسها كما لو أنها تتأكد أن جسدها ما زال جسدها وأن ما حدث في ليلة ميلادها لم يكن حلما آخر قاسيا.
قالت بصوت منخفض
هل تصدق أنني كنت أخشى حتى أن أضحك كنت أظن أن الضحك يوقظها وأن الفرح ترف لا يليق بفتاة تبيت وهي تتوقع أن تستيقظ على حراشف.
نظر إليها إيميكا ثم قال برفق
وأنا كنت أخشى أن أبتسم أمامك لأنني كنت أشعر أن ابتسامتي تغضبك أو تحرجك أو تذكرك بأنك وحدك. كنت أبحث عن طريقة لأقول لك إنك لست وحدك دون أن أجعل الأمر يبدو شفقة.
اتسعت عيناها قليلا. لم تكن معتادة على هذا النوع من الصدق. لطالما عاشت محاطة بكلمات إما جارحة أو خائفة لا كلمات تعرف طريقها إلى الداخل بهذه البساطة.
قالت وهي تحدق في الأفق
الغريب أنني طوال السنوات الماضية كنت أظن أن اللعنة في الأفعى. لكنني بدأت أفهم أن اللعنة كانت في خوفي. في أنني كنت أهرب من نفسي وأكرهها وأعاملها كعدوة.
سكتت لحظة ثم أضافت
في تلك الليلة حين تركتها ترتفع دون خوف شعرت كأنني أتوقف عن الركض لأول مرة. كأنني أقول لها أنا أراك. أنا لا أنكر وجودك. لكنني لن أكون أسيرتك.
ابتسم إيميكا ابتسامة صغيرة وقال
ولهذا هدأت.
التفتت إليه فجأة كأنها التقطت معنى جديدا في كلمته. سألته
هل كنت خائفا عندما رأيتني في الغرفة تلك الليلة عندما رأيت الضوء الحراشف الأفاعي
لم يتظاهر بالشجاعة. قال بصراحة
نعم.كنت خائفا. خائفا جدا. لكنني كنت أخاف شيئا آخر أكثر كنت أخاف أن أتركك وحدك ثم أندم طوال حياتي لأنني صدقت الشائعات بدل أن أصدق الإنسان الذي رأيته فيك.
خفضت رأسها قليلا. شعرت بحرارة تسري في صدرها حرارة ليست من سحر ولا من فحيح بل من معنى لا تعرف كيف تسميه أن يختارك أحدهم حتى حين تصبح الحقيقة ثقيلة.
مرت فتاة صغيرة قرب الشجرة تحمل دفترا مدرسيا وتضحك بصوت عال مع صديقتها. مرت سريعا لكن آداورا تابعتها بعينيها كأنها ترى طفولتها تمر أمامها وتلوح ثم تختفي.
قالت بصوت خافت
كنت أتمنى أن أكون مثلها بلا أسرار بلا خوف بلا كوابيس.
رد إيميكا بهدوء
أنت الآن أقرب إلى ذلك مما تتخيلين. ليس لأن الأفعى انتهت بل لأنك لم تعودي وحدك معها.
أخفضت آداورا كفها إلى العشب وراحت تقطع ورقة صغيرة وتلتف بها حول إصبعها كأنها تختبر قدرتها على السيطرة على الأشياء البسيطة. ثم قالت
وماذا الآن
ابتسم إيميكا
الآن نعيش.
لم تعجبه هذه الكلمة وحدها فأضاف سريعا كأنه يخشى أن يبدو الكلام فارغا
نعيش دون أن نكذب. دون أن نخاف كل مرة من صوت الناس. سنواجههم إن لزم. وسنبتعد إن لزم. لكننا لن نختبئ.
رفعت آداورا نظرها إليه وكأنها تسمع الوعد لأول مرة بلغة يمكن تصديقها.
في ذلك المساء حين عادا كل إلى بيته لم تشعر آداورا بثقل الطريق كما كانت تشعر من قبل. كانت تسير وتلاحظ الأشياء الصغيرة ضوء المصابيح ظل الأشجار على الجدران صوت الماء في مجرى ضيق عند الحافة. كانت الحياة التي تمر عادة دون أن تراها قد بدأت تستعيد ألوانها.
وفي الليل وقفت آداورا أمام نافذتها. كان القمر أبيض من جديد لا دمويا ولا مخيفا. لامس النسيم خدهاكما لو أنه يختبر هل ما زلت ترتجفين
لم ترتجف.
نظرت إلى انعكاسها في الزجاج. رأت وجهها كما هو عينين بشريتين بشرتهما
ساكنة ملامحها هادئة. لكنها للحظة خاطفة رأت شيئا آخر خلفها لمعانا ذهبيا في العينين كوميض برق بعيد.
تجمدت ثانيتين ثم تركت كتفيها يهبطان. لم تقاوم ولم تصرخ. فقط تنفست ببطء وكأنها تقول لنفسها لن أعطي الخوف فرصة ليحكم علي.
وعندها سمعت في داخلها صوتا لطيفا. لم يكن صراخا ولا فحيحا حادا بل همسا يشبه صوت ماء جار تحت الأرض
أنت لست وحدك نحن واحد. لا لعنة بل توازن.
ابتسمت آداورا ووضعت كفها على صدرها ثم همست
شكرا لأنك سمحت لي أن أعيش.
في الداخل كان إيميكا يتحرك في نومه وينادي اسمها بهمس كأن روحه تسبق فمه
آداورا
لم تكن تعرف إن كان يسمعها حين تتمتم باسمه لكنها قالت هي الأخرى في عتمتها
وأنا أيضا لن أتركك.
مرت دقائق ثم ساعة. واستلقى الليل على البيوت كغطاء ثقيل لكن دون أن يخنقها هذه المرة.
وفي مكان ما في الهواء مر فحيح خافت لا كتهديد بل كلحن تهويدة قديم. كأن شيئا غير مرئي يلتف حول البيت ويحرسه لا ليقيدها بل ليمنع عنها ما كان يخيفها.
لم تعد الأفعى تطاردها
بل صارت تحرسها.
ومع أول خيط من الفجر حين بدأت العصافير تجرب أصواتها أدركت آداورا أن الأسطورة لم تبدأ من جديد فقط بل تغير معناها.
لم تعد حكاية فتاة ملعونة تهرب من نفسها
بل حكاية فتاة واجهت حقيقتها وصادقت خوفها ثم خرجت إلى العالم بوجه مرفوع ومعها قلب لم يعد وحيدا.
وهكذا لم تكن النهاية نهاية حقا بل كانت بداية فصل جديد
فصل تتعلم فيه آداورا كيف تعيش كإنسانة كاملة
لا نصفها بشر ونصفها رعب
بل روح واحدة تعرفأن القوة ليست في إخفاء الوحش
بل في ترويضه بالمحبة وبالشجاعة وبالصدق.





