
كنت أظن أن ابنتي بخير… حتى سمعتُ الحقيقة من تحت السرير
يعمل بصوت منخفض لكننا لم نكن نتابع ما يعرض. كانت ليلي تمسك كوبا من الشاي وتبدو غارقة في أفكارها. التفتت إلي فجأة وهمست بصوت خافت لكنه واثق
أمي القوة الحقيقية ليست في إخفاء الألم بل في مشاركته.
توقفت الكلمات في صدري لحظة. لم تكن مجرد جملة بل خلاصة رحلة كاملة. عانقتها بقوة عناقا لم يكن تعويضا عما فات بل تأكيدا على ما هو آت.
قلت لها
نعم يا حبيبتي. ونحن أقوى معا.
ابتسمت ابتسامة صادقة مشرقة وأسندت رأسها على كتفي. في تلك اللحظة شعرت بشيء يشبه السلام. ليس ذلك السلام الكامل الخالي من القلق بل سلام المعرفة أنني لم أعد وحدي في مسؤولية الحماية وأن ابنتي لم تعد وحدها في مواجهة العالم.
لأول مرة منذ وقت طويل شعرت بأن منزلنا آمن من جديد. ليس لأنه محصن من الألم بل لأنه صار مكانا يقال فيه الألم دون خوف. مكانا لا تخفى فيه الدموع ولا تكبت فيه الأسئلة ولا يترك فيه أحد ليقاتل وحده.
لقد تعلمنا أن النجاة لا تكون فردية وأن الصمت مهما بدا مريحا قد يكون أخطر من الكلام.تعلمنا أن المؤسسات قد تخذل وأن الأنظمة قد تفشل لكن العلاقات الإنسانية الصادقة حين تبنى على الشجاعة والصدق يمكن أن تصنع فارقا حقيقيا.
لم تكن قصتنا استثنائية لكنها كانت صادقة. وربما في بساطتها تكمن أهميتها. لأن ما حدث معنا يمكن أن يحدث في أي مكان وفي أي بيت ومع أي طفل يبتسم ظاهريا بينما ينهار من الداخل.
ولهذا حين أنظر إلى ليلي اليوم لا أراها فقط ابنتي بل أراها شاهدة على حقيقة أكبر أن الأطفال لا يحتاجون دائما إلى حلول جاهزة بل إلى بالغين يستمعون ويصدقون ويتحملون مسؤولية المواجهة.
أما أنا فقد تغيرت بدوري تغيرا لم أكن أتوقعه ولم أكن مستعدة له في البداية. لم أعد تلك الأم التي كانت تظن بحسن نية أن الحب وحده يكفي لحماية طفلها من قسوة العالم. كنت أؤمن أن القرب والاحتواء والاهتمام اليومي تشكل درعا لا يخترق. لكنني أدركت بعد كل ما مررنا به أن الحب مهما كان صادقا يحتاج إلى وعي دائم وإلى شجاعة في مواجهة الحقائق غير المريحة وإلى استعداد حقيقي لإعادة النظرفي أفكارنا المطمئنة التي نتمسك بها فقط لأنها تمنحنا شعورا زائفا بالأمان.
تعلمت أن كونك أما لا يعني أنك ترين كل شيء ولا يعني أنك محصنة من الخطأ. بل يعني في أعمق معانيه أن تكوني مستعدة للاعتراف بأنك قد لا تعرفين دائما ما يجري في قلب طفلك وأن تفتحي الباب للأسئلة بدل أن تغلقيه بالافتراضات. تعلمت أن الإصغاء ليس مجرد سماع الكلمات بل ملاحظة الصمت والانتباه للتغيرات الصغيرة وتقبل أن الألم لا يأتي دائما في صورة صراخ أو دموع واضحة.
صرت أكثر انتباها ليس بدافع الخوف بل بدافع المسؤولية. صرت أطرح الأسئلة دون أن أضغط وأمنح المساحة دون أن أغيب وأحاول أن أوازن بين الحماية والثقة وهو توازن هش لكنه ضروري. أدركت أن الشجاعة لا تعني السيطرة على كل شيء بل تعني الوقوف بثبات حين نكتشف أن الأمور خرجت عن سيطرتنا.
وهكذا نمضي معا أنا وليلي في طريق لم يعد يخلو من الخوف لكنه لم يعد مشلولا به. نمضي بوعي أكبر وبقدرة أصدق على تسمية الأشياء بأسمائها. لا نمشي بلا ألم لكننا لمنعد نهرب منه أو نخجل من الاعتراف بوجوده. صار الألم جزءا من الحكاية لا نهايتها.
نمضي وقد فهمنا أن النجاة ليست لحظة واحدة بل سلسلة من الاختيارات اليومية أن نتكلم بدل أن نصمت أن نطلب المساعدة بدل أن نتظاهر بالقوة وأن نواجه بدل أن نتجاهل. فهمنا أن القوة الحقيقية لا تكمن في الصمود الصامت بل في المشاركة وفي الاعتراف بأن الإنسان لا يخلق ليحمل كل شيء وحده.
لم نعد نقاتل كما كنا من قبل كل في زاويته يحاول أن يحمي الآخر بإخفاء ضعفه. صرنا نقاتل معا بصدق وبعيون مفتوحة وبقلوب تعرف أن الانكسار ليس نهاية الطريق بل أحيانا بدايته.
ولعل أجمل ما تغير فينا هو ذلك الشعور الخفي بأننا لم نعد مضطرين للتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. صار مسموحا أن نقول لسنا بخير اليوم دون خوف من الانهيار. صار مسموحا أن نبطئ الخطى وأن نتعلم من أخطائنا وأن نعيد بناء الثقة خطوة خطوة.
لأننا هذه المرة حقا لم نقاتل وحدنا
ولأننا تعلمنا أن المشاركة لا تضعفنا بل تمنحنا القوة التي كنا نبحث عنهاطوال الوقت.





