
الطفلة اللي وقفت قدّام قصر الملياردير وقالت له أهلاً يا أبي!
ما زلت أذكر جيدا أول يوم رأيتها فيه
كانت طفلة صغيرة ترتدي فستانا أصفر باهتا وتقف حافية القدمين أمام البوابة الحديدية السوداء ل عزبة ويتمور. لم تكن تتجاوز العاشرة. ربط شعرها بشريط أزرق من ذلك النوع الذي يبهت ويتنسل إذا غسل كثيرا.
وقفت بلا حركة تحدق في الحروف المحفورة على عمودي الحجر
WHITMORE
اسم عائلتي.
كنت داخل القصر آنذاك
جدران زجاجية أرضيات من الرخام وصمت نقي كأن المكان لم يمسه بشر يوما. عائلتي كانت تحب هذا النمط من الحياة منضبطا باردا كاملا. وكنت أظن أن ذلك طبيعي.
لكن تلك الطفلة غيرت شيئا بداخلي في ذلك اليوم.
كانت تزور المكان كل عصر في التوقيت نفسه. تقف عند البوابة تضع زهرة صغيرة على أحد القضبان الحديدية ثم تهمس بكلمات لم أستطع يوما أن أسمعها. تبقى خمس دقائق بالتمام ثم تستدير وتنزل التل ببطء شديد بخطوات أعرف الآن أنها خطوات من يحفظ الطريق حجرا حجرا.
كان الحرس يسخرون.
وكان خدم المنزل يتهامسون.
وأمي كانت تسميها تلك الطفلة الموهومة.
لكنها بقيت تأتي.
كل يوم.
وفي أحد الأيام فتحت تسجيلات الكاميرات. كبرت الصورة.
لم تكن تنظر إلى القصر بل إلى الحروف. كانت تحدق بها كمن يحفظ سرا مكتوبا على الحجر.
أزعجني ذلك بطريقة لم أعرف لها تفسيرا.
في عصر اليوم التالي راقبت من نافذة مكتبي. اقترب الحارس منها وقال شيئا ماعلىالأرجح طلب منها أن ترحل. أمالت رأسها بأدب اعتذرت وتراجعت خطوة لكن قبل أن تستدير لمست البوابة برفق وهمست من جديد.
وهذه المرة قرأت شفتيها.
مرحبا يا أمي.
انقلب العالم تحت قدمي. خرجت من المكتب إلى الردهة وأنا أشعر وكأني رأيت شبحا.
في اليوم التالي انتظرت عند النافذة نفسها. جاءت وفي يدها ظرف مجعد. لم تحاول فتحه فقط ضغطته على البوابة وهمست أنا أحاول يا أمي والله أحاول.
انتزع الحارس الظرف من يدها وصرخ عليها. ارتجفت. حبس نفسي في صدري.
طردت الحارس صباح اليوم التالي.
وفي اليوم السابع لم تأت.
كان غيابها أثقل من حضورها.
وفي اليوم الثامن زحفت عاصفة فوق التل. أضواء القصر رمشت. ومن خلال المطر رأيتها
تجري نحو البوابة وهي تحتضن شيئا أسفل قميصها لتحميه من المطر. كانت المياه تتطاير تحت قدميها. كادت تنزلق لكنها تابعت.
وصلت إلى البوابة مبللة من رأسها حتى قدميها. أخرجت ما كانت تحميه رسالة صغيرة مختومة داخل ظرف وردي باهت. دفعتها من بين القضبان إلى داخل ممتلكاتنا كما لو أنها تضع شيئا ثمينا على محراب.
ثم همست بصوت أعلى من المعتاد فيما ابتلعتها العاصفة
أرجوك أرجوك دعه يراه.
لم أفكر. أمسكت مظلة وخرجت حافيا.
عندما رأتني تجمدت. تراجعت خطوة ورعب خاطف لمع في عينيهارعب لا يملكه إلا من علمته الحياة ألا ينتظر اللطف.
أنا آسفة تمتمت.كنت فقط أريد تركه. لن أزعج أحدا. واستدارت لتجري.
لحظة قلت لها.
فتوقفت.
التقطت الظرف. كان يحمل كلمة واحدة بخط مرتجف ورقيق
إلى إيزرا ويتمور.
اسمي.
انقبض صدري.
هل كتبت والدتك هذا سألتها بلطف.
مسحت أنفها بظهر يدها. نعم. قبل أن قبل أن ترحل.
ترحل همست.
هزت رأسها. قالت لي إن حدث شيء علي أن آتي إلى هنا. قالت إن الناس داخل هذا البيت سيعرفون قيمتي يوما ما.
ضاق حلقي. ما اسمك
ترددت. ليلا.
وكيف عرفت أمك بي
أخرجت صورة مطوية من جيبها ومدتها إلي. فتحتها وانشق عالمي إلى نصفين.
كان وجهي.
أصغر سنا. يضحك.
وبجانبي امرأة تحمل العينين البنيتين نفسيهما اللتين تملكهما ليلا.
حبيبتي في الجامعة.
التي أجبرتني أمي على تركها لأنها ليست من مستوانا.
التي اختفت قبل أن أستطيع الوصول إليها
blurred رؤيتي. تشبثت بالصورة كما لو كانت آخر قطعة من الحقيقة في هذا البيت السام.
أين أمك الآن سألت بصوت مكسور.
نظرت ليلا إلى قدميها. توفيت قبل شهرين.
هطل المطر كأن السماء تحزن معنا.
فتحت الرسالة بيدين مرتعشتين. وفي الداخل بخطها الرقيق
إيزرا
إن كانت الحياة قاسية فلا تجعلها قاسية عليها.
هي ابنتك.
مارا
سقطت على ركبتي أمام البوابة.
فزعت ليلا. آسفة لم يكن علي المجيء كنت فقط أريدك أن تعرف لم أرد لها أن تنسى أيضا
فتحت البوابة.
ليلا قلت بهدوء ستدخلينالآن.
تجمدت. عائلتك لا تريدني هنا.
ارتسمت على شفتي ابتسامة مرة. عائلتي لا تقرر شيئا بعد الآن.
ولأول مرة في حياتي قلت الحقيقة التي خفت قولها سنوات طويلة
أمي لا تدير هذا البيت. أنا أفعل. وكان يجب أن أبحث عنكما منذ زمن.
نظرت إلي عبر المطر. وماذا ستفعل الآن
ابتلعت ريقي. كل ما فشلت في فعله سابقا.
أمسكت بيدها برفق. ارتجفت قليلا ثم تركتني أمسكها.
قادتها قدماي إلى داخل عزبة ويتمور تجاوزنا الجدران الزجاجية الأرضيات الرخامية والإرث البارد الذي بنته أمي. وعندما أغلق الباب خلفنا أيقنت أن شيئا لا يمكن الرجوع عنه قد حدث.
سلالة تشققت.
وطفلة دخلت.
ولن يكون هذا البيت كما كان مرة أخرى.
ما فتحت الظرف عند البوابة.
ربما كان خوفا.
ربما كان شيئا آخر تلك الطفلة الواقفة أمامي بثبات غريب كأنها تدربت على هذه اللحظة آلاف المرات.
ادخلي قلت لها بلطف.
هزت رأسها. لا يا سيد. أمي قالت أن أعطيك الظرف فقط.
كان صوتها خافتا حذرا وكأنه محفوظ عن ظهر قلب.
كان قولها يا سيد بدلا من أبي يطعنني في مكان أعرفه جيدا.
اقتربت خطوة.
ما اسمك
رمشت سريعا كمن ينتقي الإجابة الأقل خطرا.
إيمري.
هبت ريح باردة فدفعت خصلات شعرها عبر خدها. لم تتحرك.
أخذت الظرف من بين أصابعها الصغيرة الباردة التي ترتجف فقط من أطرافها. كانت عيناها تتابعان حركتي وكأن مصيرها يتوقفعلى لحظة فتحه.
أين أمك سألتها.
حدقت في قدميها الحافيتين.
بعيدة قالت إنك ستأتي لتبحث عنا بعد





