
من ذكريات الديكتاتوريات
في عام 1986، حيث كان النظام العراقي يفرض قبضة حديدية على كل مفاصل الدولة، وخاصة الإعلام، وقعت واحدة من أكثر القصص إيلاماً في تاريخ التلفزيون العراقي.
بطلتها هي المذيعة المتألقة راجحة خضير.
لم تكن راجحة معارضة سياسية، بل كانت ابنة المؤسسة الإعلامية الرسمية.
لكن في لحظة عفوية داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، وبينما كانت تُبث أغنية تمجد الرئيس آنذاك بكلمات “غالي صدام غالي”، أطلقت راجحة تعليقاً ساخراً (نكتة) قالت فيه: “ما دام غالي.. ليش ما يسعره؟”.
كانت هذه الجملة كفيلة بتحريك آلة النظام الأمنية فوراً بعد أن أبلغت عنها إحدى زميلاتها.
اقتيدت راجحة خضير على اثرها إلي جهة غير معلومة،واختفت عن بيتها وزوجها وابنها الصغير لمدة تقارب الشهرين.
ظل زوجها الفنان الراحل عبدالجبار كاظم،يبحث عنها في كل مكان..
وكان كلما يسأل عنها صغيرها آنذاك عن لم يكن لدى الأب والزوج المكلوم سوى جملة “أنها في رحلة عمل يأبني وستعود قريباً”.
تذكر بعض الشهادات لزملائها أن النظام أراد جعلها عبرة لكل من يتجرأ على “الهيبة” بكلمة، حتى وإن كانت دعابة عابرة.
خرجت راجحة لاحقاً من مكان الذي كنت محتجزة فيه، لكنها لم تخرج كما دخلت.
يروي المقربون منها، ومنهم ابنها الفنان مهران عبد الجبار، أنها خرجت بجسد منهار وشعر متساقط، وسط شكوك قوية بأنها حُقنت بمادة “الثاليوم” السامة، وهي الوسيلة التي كان يتبعها النظام آنذاك للتخلص من المغضوب عليهم بطريقة تضمن وفاتهم “طبيعياً” بعد مدة قصيرة من الإفراج عنهم.
وفعلاً، بعد نحو 40 يوماً من خروجها فقط، فارقت راجحة الحياة عام 1986، تاركة خلفها مأساة هزت الوسط الفني، وزوجاً ظل يحمل جرحها في قلبه حتى رحيله.
قصة راجحة خضير تذكرنا دائماً بضريبة الكلمة في زمن كانت فيه الجدران تملك آذاناً، وكان فيه خفة الظل وحدها يمكن أن تؤدي بصاحبها إلى الهلاك.
من ذكريات الديكتاتوريات..





