قصص قصيرة

عاد بعد عامٍ ومعه مليون… لكن ما رآه خلف باب بيته جعله يتمنّى لو عاد صفر اليدين

توقف الحافلة الليلية عند أطراف بلدة سانتا بروما ديل بايي المغبرة بعد أن كان قرص الشمس قد اختفى تماما خلف التلال الصامتة. كان الهواء باردا جافا يلسع الوجه ويملأ الصدر بخشونة قاسية لكن قلب لياندرو إيزكوا كان يخفق بإيقاع آخر مزيج متناقض من القلق والأمل كأنهما يتصارعان في صدره على من يسبق إلى أنفاسه.
شد بيده بقوة على الحقيبة المهترئة التي كانت معلقة على صدره بحزام خشن. داخلها كان هناك مليون بيزو كامل أوراق نقدية عدها واحدة واحدة لفها بالبلاستيك مرارا لكن العرق الذي نزفه جسده خلال عام كامل من الجحيم تسلل إليها رغم كل الاحتياطات كأن المال نفسه تشبع بثمنه الحقيقي.
اثنا عشر شهرا كاملة اختفى فيها لياندرو عن العالم.
لم يكن أحد يعرف أين هو ولا ماذا يفعل ولا إن كان حيا أصلا. عمل في منطقة نائية عند الحدود الشمالية في أعمال غير قانونية بين الجبال والصحارى حيث لا شبكات اتصال ولا عقود ولا ضمانات ولا أسماء حقيقية. عالم لا يعترف إلا بالقوة والصمت. غادر دون أن يشرح ودون أن يترك سوى كلمات قليلة لا تكفي لطمأنة أحد. لم يتصل. لم يكتب. لم يرسل مالا.
ليس لأنه لم يكن يحب عائلته بل لأنه وضع كل ما يملك وكل ما هو عليه في رهان واحد إما أن يعود غنيا أو لا يعود وهو لا شيء.
حين غادركانت زوجته ماورا تشوتشيتل قد وضعت مولودها قبل ثلاثة أشهر فقط. كان ابنهما ناهيل رضيعا صغيرا لا يعرف بعد كيف يبتسم ولا كيف يميز وجه أبيه من بين الوجوه. تركهما خلفه وهو يقنع نفسه بأن الغياب المؤقت أهون من حياة الفقر الدائم.
همس لنفسه يومها وهو يشد على يد زوجته المرتجفة
اصبري قليلا يا ماورا هذه المرة سأغير كل شيء.
لكن الكلمات أسهل من الزمن.
عندما وصل أمام بيته انكسرت الصورة التي رسمها في خياله طوال العام.
بينما كانت بيوت الجيران مضاءة تنبعث منها موسيقى ريفية وضحكات وتفوح منها رائحة طعام ساخن بدا بيته وكأنه مهجور منذ سنين. الباب الخارجي مائل السور الحديدي ملتويا الفناء مغطى بالأعشاب اليابسة وشجرة البرتقال العجوز التي زرعها بيده يوم زواجه كانت يابسة كأنها هي الأخرى فقدت الرغبة في الحياة.
شعر بعقدة تلتف حول معدته.
اقترب ببطء ونادى بصوت حاول أن يجعله ثابتا
ماورا ناهيل لقد عدت.
لم يجبه أحد.
دفع الباب بيده فانفتح بسهولة مخيفة. كان مفتوحا.
اندفع إلى أنفه هواء ثقيل لزج يحمل رائحة رطوبة ومرض وفقر. رائحة بيت لم يعد فيه من يقاوم الانهيار.
مد يده إلى مفتاح الضوء. لم يعمل. أخرج هاتفه وشغل المصباح اليدوي. تحرك الشعاع الضيق عبر الغرفة كاشفا طبقة كثيفة من الغبار إلى أن وصل إلى الزاوية.
في تلك اللحظة سقطت الحقيبة من يده.
على حصير ممزق مباشرة فوق الأرض الباردة كانت ماورا منكمشة على نفسها. بدت نحيلة إلى حد مؤلم كأن جسدها فقد مادته وبقي ظله فقط. وجهها غائر شفتاها متشققتان وعيناها مطفأتان بلا بريق. إلى جوارها كان ناهيل ساكنا صغيرا أكثر مما يجب يتنفس بصعوبة يصدر من صدره صفير ضعيف يجمد الدم في العروق.
على الطاولة القريبة لم يكن هناك سوى وعاء صغير من مرق مائي بارد وبضع حبات دواء مبعثرة بلا علبة ولا نظام.
صرخ لياندرو وهو يركع
ماورا! ابني!
وضع يده على جبين الطفل.
كان يحترق.
فتحت ماورا عينيها لثوان معدودة بالكاد استطاعت التركيز.
تمتمت
لياندرو لا تدعه يموت
ثم غابت عن الوعي.
لم يفكر.
حملها على ظهره وضم ابنه إلى صدره واندفع خارج البيت يصرخ في الشارع كحيوان جريح
النجدة! أرجوكم! عائلتي تموت!
خرج الجيران مذعورين. لم يحتج إلى شرح. أحدهم شغل شاحنته فورا وانطلقوا بأقصى سرعة نحو المستشفى الإقليمي في سان أركاديو.
في قسم الطوارئ انهار لياندرو على الأرض. بجواره كانت الحقيبة مفتوحة والمليون بيزو ممدودا كفضيحة صامتة كأنه يسخر منه.
خرج الطبيب بعد وقت بدا أبديا وملامحه مشدودة.
قال بصوت مهني لكنه ثقيل
زوجتك تعاني من سوء تغذية حاد وانهيار في الوظائف الحيوية. والطفل مصاب بالتهاب رئوي شديد وفشل تنفسي.
توقف لحظة ثم أضاف
وصلتم في اللحظة الأخيرة. لو تأخرتم قليلا لما كنا نتحدث الآن.
لم يستطع لياندرو الرد.
اقتربت امرأة مسنة جارتهم دونيا سيفيرينا وتكلمت بصوت منخفض
لياندرو لم يعرف أحد عنك شيئا طوال عام. بقيت ماورا وحدها بلا مال بلا حليب للطفل. أمك بريخيدا إيزكوا قالت إنك تركتهما وانتقلت للعيش مع ابنتك لتعتني بحفيد آخر. ماورا طلبت المساعدة لكنها كانت قد استنزفت تماما.
كانت كل كلمة حكما.
أخرج هاتفه واتصل بأمه.
أجابت بصوت مرح
نعم نحن نتعشى هناك موسيقى
صرخ
ابني كان على وشك الموت! أين كنت حين كان حفيدك يختفي!
ساد صمت ثقيل.
أنهى المكالمة ورمى الهاتف على الأرض فتحطم.
من آخر الممر رأى ماورا موصولة بالمحاليل وناهيل داخل حاضنة يكافح من أجل كل نفس.
نظر إلى المال.
وفهم.
لقد عاد غنيا ومتأخرا.
وبكى دون خجل للمرة الأولى كما لم يبك في حياته.
جلس لياندرو على المقعد البلاستيكي البارد في ممر الطوارئ وظهره ملتصق بالجدار كأن جسده لم يعد قادرا على الوقوف وحده. كانت عيناه معلقتين على الضوء الأحمر فوق باب العناية المركزة ذلك الضوء الصغير الذي صار فجأة خطا فاصلا بين عالمين عالم كان يظن أنه يعرفه وعالم جديد لا يشبه أي شيء خطط له.
مرت الدقائق بطيئة ثقيلة كل ثانية فيها كانت تجر خلفها

1 2 3 4الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock