قصص قصيرة

من قصرٍ بلا قلب إلى بيتٍ مليء بالحياة حكاية رجلٍ اختار كرامة أمّه على بريق زوجته

أُلغيَت رحلتي المتّصلة من . كان يمكنني أن أبيت في فندق فاخر، أتناول عشاءً هادئًا، وأنتظر رحلة الغد، لكن شيئًا في صدري—تلك النداءات الخفيّة التي لا يخطئها قلبٌ تربّى في المكسيك—همس لي: «عُد إلى البيت.»

استأجرتُ سيارة، وقُدتُ أربع ساعات حتى وصلت إلى منزلنا في أرقى أحياء المدينة. كان الوقت الحادية عشرة صباحًا من يوم ثلاثاء، وكان ينبغي للبيت أن تفوح منه رائحة القهوة بالقرفة، أو أيّ طبق تُعدّه روزيتا—عاملة المنزل وعمود البيت وصوته الحنون. توقّعت أن تستقبلني فانيسا، زوجتي، بابتسامةٍ وقبلة، وربما بعض الشكاوى المعتادة عن ازدحام الطرق أو قصص النادي الرياضي.

لكن حين فتحت الباب… سقط الصمت فوقي كالحجر. صمتٌ ثقيل، كثيف… غريب على منزلٍ فيه طفلان توأم لم يبلغا الثالثة.

وضعتُ حقائبي بهدوء، واتجهت نحو الصالة. هناك سمعته—ليس ضحكًا، ولا موسيقى—بل بكاء خافت مكتوم. بكاء طفلين. ومعه صوت امرأة… ليس فيه أيّ رحمة.

«أسرعي! أنتِ كالسلاحف!»

كان صوت فانيسا، لكن بنبرة لم أعرفها قطّ؛ نبرة حادّة، لئيمة، كأنها قادمة من شخصٍ آخر تمامًا.

تقدّمت أكثر. رائحة المبيّض ملأت الممرّ حتى كادت تحرق حلقي. دفعني القلق إلى الاقتراب من باب الحمّام الضيفيّ، وكان نصف مفتوح. وما إن نظرت داخله… حتى تجمّد دمي.

كانت أمي—دونيا إلينا—تجلس على ركبتيها فوق أرضٍ رخامية متجمّدة. امرأة في الثانية والسبعين، تعاني من التهاب المفاصل، بالكاد تستطيع الوقوف في يومٍ عادي. على ظهرها كان التوأمان مربوطين بإيشاربٍ ضيّق، يبكيان بحرقة، بينما تنحني أمي، ظهرها المرتعش ينكمش، وهي تفرك قاعدة المرحاض بإسفنجة قديمة.

إلى جانبها كانت روزيتا، تبكي فيصمت، راكعة وهي ترفع يديها كما لو كانت تستجدي الرحمة:
«أرجوكِ يا سيدتي، لا تُجبريها على الركوع. قدماها تؤلمانها اليوم. سأفعل كل شيء. فقط دعيها تقف.»

لكن فانيسا لم تلتفت إليها. كانت تفحص أظافرها الطويلة ببرودٍ مميت، وقالت باحتقارٍ كأنها تبصق كلماتها على الأرض:
«قلتُ لها إنّ من يريد أن يأكل تحت سقفي… عليه أن يعمل. ثم ما المشكلة؟ قليلٌ من الحركة لن يقتلها. إنّها شبه مريضة أصلاً.»

صرخت روزيتا باكية: «سيدتي، كفّي عن ذلك، دعيني أساعد!»

وفي تلك اللحظة استدارت فانيسا—وجلّى الشيطان وجهه. رفعت يدها وصفعت روزيتا صفعة هزّت الجدران. ارتطم رأس روزيتا بحافّة المغسلة، واندفعت قطرات من الدم على جبينها.

أمّي شهقت، وأسقطت الإسفنجة، وحاولت حماية روزيتا، لكن التوأمين المربوطين على ظهرها كادوا يوقعونها أرضًا.

صرخت فانيسا فيها:
«وأنتِ! إن لم تنهي العمل خلال خمس دقائق… ستنامين في غرفة الخادمة، من غير عشاء!»

انعَصر صدري حتى شعرت أنّني سأغ vomit. كل نجاحي… كل المال… القصر… السيارات المحصّنة… لم يكن يساوي شيئًا. تركتُ أمي—قدّيسة قلبي—في فم الذئب. والذئب كان يعيش معنا تحت السقف نفسه.

صرخت: «فانيسا!»

ارتجّ البيت. انتفضت فانيسا كما لو أنّ صاعقة ضربتها. تلاشت قسوتها في لحظة، وظهر الخوف في وجهها.

تمتمت: «ر… ريكاردو؟ أنت… عدت مبكرًا. هذه ليست كما تبدو. أمّك هي من أصرت على—»

لم أسمح لها بإكمال جملتها.

ركعتُ على الأرض المبلّلة بالمبيّض، لا مبالياً ببدلتي. حرّرتُ التوأمين من ظهر أمّي، وساعدتها على الوقوف. كانت باردة كالثلج، يداها ترتجفان كأنهما لم تعودا جزءًا منها.

همستُ لها وأنا أمسح عن وجهها الدموع:
«ماما…لماذا؟ لماذا لم تخبريني؟»

لم تقل شيئًا.
بكت فقط… بكاءً صامتًا يشبه بكاء أمّهات المكسيك—خوفًا من أن “يُسبّبن مشكلة”.

اقتربت روزيتا، تنزف، وتمسح دمها بطرف مئزرها. أخرجت شيئًا من جيبها—ذاكرة USB صغيرة.
قالت بصوت مهزوز:
«باترون… دون ريكاردو… سامحني لأنني أعطيك هذا بهذه الطريقة… لكنني لم أعد أستطيع الصمت.»

ارتجف وجه فانيسا، وابيضّ كأن الحياة غادرته.
صرخت بجنون:
«ريكاردو! لا تستمع لها! هي مجنونة! تغار مني! لا تصدق أي شيء قد يكون داخل—»

أمسكت الـUSB بقوة لدرجة أنّ مفاصلي صريرت.
قلت بهدوء قاتل:
«إن كانت تكذب يا فانيسا… فلماذا ترتجفين هكذا؟»

أخرجتُ أمّي وروزيتا خارج الحمام، وأجلست أمي على الأريكة الرئيسية—الأريكة التي منعتنا فانيسا من الجلوس عليها لأنّها “قطعة فنيّة إيطالية”.

أمرتُها:
«أحضري صندوق الإسعافات. الآن.»

رفعت رأسها بعناد، وقالت بوقاحة:
«أنت تبالغ. إنها مجرد خدش. ثم انظر كيف تركوا الحمّام.»

لم ألمسها.
أنا لا أمدّ يدي على امرأة.
لكنني اقتربت منها بما يكفي لتشعر بالنار في عينيّ.

كررتُ:
«أحضريه… وإلا أقسم بذكرى أبي أنني سأرميك خارج هذا المنزل الآن.»

هربت.

وبينما نظّفت جرح روزيتا وساعدت أمي على شرب الشاي الدافئ، أدخلتُ الـUSB في الحاسوب.

ظهر كل شيء.

كاميرات خفية.
فانيسا ترمي الطعام على الأرض وتجبر أمي على التقاطه.
تسخر من ملابسها أمام صديقاتها الثرثارات.
تحبس روزيتا في غرفة الغسيل ساعات طويلة.
تصفع.
تهين.
تأمر.
تضحك.

أغلقتُ الحاسوب.

قلت بصوت ثابت:
«الأمر انتهى.»

عادت فانيسا تحمل الصندوق، تحاول التظاهر بالقلق.
قالت وهي تتصنّع البكاء:
«حبيبي… لنكن عقلانيين. أنت متوتر،أمك تبالغ—»

قاطعتها:
«الوحيدة التي تتخيّل هنا… هي أنت. إن كنتِ تعتقدين أنك ستقضين ليلة أخرى في هذا البيت.»

ارتفع صوتها:
«تطردني؟ أنا؟ أم أطفالك؟! هذا البيت نصفه ملكي!»

اقتربت منها وقلت بوضوح:
«خذي نصف البيت. خذي السيارات. خذي ما تريدين.
لكنّ احترامي، وأمّي، وأطفالي… انتهى حقّك فيهم يوم مددتِ يدك عليهم.»

صرخت بجنون:
«إنها كاذبة! أمك غيورة! روزيتا خادمة جاهلة!»

زمجرت: «اخرسي!»
اهتزت الجدران من صوتي.

«الوضاعة ليست في الفقر. الوضاعة في ضرب امرأة عجوز… وفي إيذاء من يعملون بكرامة.»

اتصلتُ بقائد الشرطة، صديق العائلة:
«راميريز… نحتاج دورية. عنف منزلي. إصابات. لديّ أدلة. نعم… زوجتي.»

صُدمت فانيسا.
صرخت:
«لن تجرؤ! سيفضحني الجيران!»

قلت:
«تملكين عشر دقائق لجمع حقيبة. بعدها… تخرجين مع الشرطة.»

هربت وهي تسبّ وتشتم.

نظرت أمي إليّ بعينين مرهقتين.
قالت:
«ابني… لم يكن عليك فعل ذلك. إنها أم أولادك.»

مسكت يدها وقلت:
«ماما، أنتِ حملتني حين لم أستطع المشي، وأطعمتِني حين لم يكن لديكِ شيء.
إن سمحتُ لأحد أن يمسّك… لا أستحق أن أكون ابنك.»

بعد خروج فانيسا، تنفّس البيت—نعم، حرفيًا تنفّس. وكأنه كان محبوسًا لسنوات.

في الليل، جلسنا كلنا في الصالة. أشعلتُ المدفأة.
أعدّت روزيتا الشوكولاتة الساخنة.
ولأول مرة منذ زمن… رأيت ابتسامة صادقة على وجه أمي.

لكن الهدوء لم يدم طويلًا.

في الصباح جاء المحامي غابرييل.
قال بوجهٍ قاتم:
«فانيسا رفعت دعوى طلاق… ومنع اقتراب. تزعم أنك ضربتها أنت وأمك وروزيتا. وتطالب بحضانة التوأمين وحقّ السكن في البيت.»

أعطيته الـUSB.
قال:
«هذه أدلة ذهبية. لكنّها استعانت بأشرس محاميالعاصمة. وستلعب على فكرة الخصوصية وتزوير المقاطع. والأسوأ… أنها سربت قصتكم لمجلة فضائح.»

كان العنوان:
«مليونير يطرد زوجته ليُسكن أمّه والخادمة مكانها.»

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock