قصص قصيرة

قالوا عنه عجوزًا… ولم يعرفوا كيف أنقذ روحي

قطعة أثاث قديمة ينبغي تنظيفها بين حين وآخر.
سكت. ضربتني كلماته. ربما لهذا كنت هناك لأذكره أنه لا يزال إنسانا له صوت وذكريات وحضور. وفي زاوية من صدري شعرت أنه بدأ يرد إلي شيئا فقدته أنا أيضا شعور أن يصغي إلي أحد حقا.
في ذلك المساء طلب مني أن أقرأ له فصلا من كتاب كان على الطاولة. ظننته في البداية رواية عادية لكنه كان كتابا في الفلسفة يتحدث عن الحياة والموت وقيمة اللحظة الحاضرة. وأنا أقرأ بصوت عال كنت ألاحظ أنه يتابع صوتي أكثر من الكلمات كأن القراءة تمنحه طمأنينة وهدوءا.
وعندما انتهيت قال بصوت خفيض
لديك صوت هادئ يخفف ثقل اليوم ويجعل الحديث أسهل. أنت تضعين نظاما في الفوضى دون أن تشعري.
فاجأني لطفه لم أعتد أن أسمع تقديرا صريحا لما أبذله من جهد. وفي داخليدون أن أفهمبدأت أشعر أنني حين أعود من هناك أعود أقل توترا وأكثر قدرة على الصبر في بيتي.
وعندما أقبل الليل ساعدته على صعود الدرج. أمسك بيده الدرابزين وبالأخرى عصاه. كنت حريصة أن يبقى كل شيء ضمن حدود المساعدة المهنية. وحين وصلنا إلى أعلى السلم توقف لحظة وقال وهو ينظر إلي بجدية
يا لورا وجودك هنا يعيد إلي رغبة في الاهتمام بنفسي ومقاومة العزلة. كنت أترك الأيام تمر بلا هدفأما الآن فأنا أنتظر ما سأفعله غدا.
لم أعرف بماذا أجيب. اكتفيت بابتسامة صغيرة وتمنيت له ليلة طيبة. لكن حين عبرت البوابة من جديد ولفح وجهي الهواء البارد فهمت أن هذا العمل سيغيرني. كان الاعتناء به واجبا أما إحساسي بأنني أعود لحياتي بوعي أكبر فكان شيئا آخر.
يقولون إن الألفة قد تكون خطرة لأن المرء إذا اعتاد حضور شخص ما لم يعد يستطيع تركه بسهولة. لذلك وضعت قاعدة لنفسي منذ البداية الألفة لا تعني تجاوز الحدود والاحترام لا يعني التورط في التباس أخلاقي. كنت أريد أن أساعده لا أن أستبدل مشاكلي بمشكلة أكبر.
مضت الأسابيع التالية تمتلئ بطقوس صغيرة بيني وبين دون إرنستو. صرت أصل في الوقت نفسه تقريبا كل عصر أحمل كيس سوق أو كتابا جديدا تحت ذراعي. وكان هو ينتظرني في غرفة الجلوس دائما بذلك البريق في عينيه الذي يبدو كأنه يعيد إليه النشاط. كان الروتين يبدأ في المطبخ أعد القهوة أو الشاي ويجلس هو إلى الطاولة يروي طرفا من حكايات شبابه. لم تكن حكايات عادية كانت قصصا عن مرافئ بعيدة وعن قطارات ليلية في أوروبا وعن مشاريع هندسية كانت جزءا من عمره.
وفي عصر من تلك العصور بينما كنت أقطع الخضار لحساء بسيط نهض من كرسيه واقترب ببطء. وقف إلى جانبي متكئاعلى عصاه وأخذ يراقب حركة يدي. ثم قال بصوت منخفض
لديك يدان ثابتتان يدان تعرفان كيف تعتنيان وتعملان بدقة. هذا نادر. كثيرون يتظاهرون بالاهتمام لكن القليل يلتزم.
تشنجت قليلا لأنني لم أعتد أن يلاحظ أحد تفاصيل جهد يومي ثم قلت ضاحكة بتوتر
أحاول فقط أن أقوم بعملي كما يجب.
قال بخفة وفي عمري يصبح الالتزام نعمة. النظام يخفف الخوف.
ضحكنا معا فتخفف ثقل اللحظة لكن شيئا في داخلي كان قد تغير أدركت أنني صرت أقدر الهدوء في هذا المكان وأشعر أنني أستعيد توازني النفسي لأن عملي صار له معنى.
ومن العادات التي ولدت بيننا أيضا القراءة عند الغروب. كنت أجلس قبالته والمصباح مضاء وأقرأ له بصوت عال. أحيانا يقاطعني بأسئلة وأحيانا يغمض عينيه ويكتفي بالإنصات. وفي إحدى الليالي حين انتهيت من فصل كامل فتح عينيه وقال
لو أن زوجتي تسمعك لارتاحت لأنك تمنحينني شيئا فقدته صحبة لها روح لا مصلحة فيها.
عجزت عن الكلام. لقد جئت من أجل المال لكنني بدأت أكتشف أنني أحتاج هذا النوع من المعنى أيضا أن أشعر أن وجودي مفيد وأن أحدا يقدر ما أفعل دون أن يطلب مقابلا غير القيام بالواجب. وعندما هممت بالمغادرة تلك الليلة شكرني باحترام وطلب أن أكتب له ملاحظات الدواء كي لا يخطئفي مواعيده.
لم يكن الأمر عملا فحسب ولا روتينا كان شيئا يبني إنسانا من الداخل.
كان الاحتكاك قد يبدو عابرا لكن حين يتكرر يتوقف عن كونه مصادفة ويغدو مسؤولية. صارت زياراتي أكثر انتظاما وتحسن شعوره بالاستقرار وصار البيت أقل وحدة. بدأت أضع خطة بسيطة ترتيب المطبخ بطريقة أسهل إضاءة ممرات البيت ليلا تثبيت سجادة لا تنزلق ووضع أرقام الطوارئ في مكان واضح. كان هذا هو الاهتمام الحقيقي الذي لا يراه الناس عادة لأنه لا يصنع ضجة.
بدأ دون إرنستو يفتح لي عالمه لا ذكرياته فقط. في إحدى الأمسيات أراني مكتبه غرفة تعج بالمخططات والدفاتر القديمة للهندسة. على إحدى الطاولات كانت رسومات لجسور وحسابات ومخططات لمشاريع لم أفهمها كلها لكنها كانت تحكي عن رجل امتلك يوما القدرة على البناء والتغيير. قال وهو يلمس دفترا مصفرا
هنا كنت أقضي ليالي طويلة بينما كان الآخرون ينامون كنت أحلم بأن تصل جسوري بين المدن وقد فعلت على نحو ما.
نظرت إليه بإجلال. ذلك الرجل ذو الثمانين عاما كان أكثر بكثير مما يراه أهل البلدة اليوم. لم يكن مجرد أرمل وحيد بل إنسان ترك أثرا. وشعرت بفخر غريب كأنني حين أحترم كرامته الآن فأنا أحترم تاريخا كاملا.
بدأت أحاديثنا تصير أكثر شخصية.كان يسألني عن حياتي عن

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock