قصص قصيرة

طفلة أرسلت رسالة إلى رقمٍ خاطئ… فأنقذت حياة أمها وغيّرت مصير رجلٍ كامل

إيما منذ زمن لم تعد ترتجف يدها كلما سقطت ملعقة ولم تعد عيناها تتسعان عند كل صوت مفاجئ ومع ذلك لم تختف الندوب بعضها بقي على الجلد وبعضها بقي في النظرة التي تتأخر نصف ثانية قبل أن تبتسم كانت تخلط العجين وتضيف رقائق الشوكولاتة كما لو أنها تعيد ترتيب العالم بالمقادير ملعقة سكر أقل كي لا يطفو المر وقليل من الفانيلا ليعود للبيت ما فقده من دفء وكانت كل مرة تخرج فيها صينية البسكويت من الفرن ترفع صوتها بإصرار ناعم تعالي يا إيما تذكري هذا بيتنا كأنها تعلمها أن كلمة بيتنا لا يجب أن تكون سببا للخوف 
أما إيما فكانت تتعلم الحياة من جديد على شكل تفاصيل صغيرة تعلمت أن تنام دون أن تضع أذنها في اتجاه الباب تعلمت أن تغلق عينيها ولا تفتحهما مفزوعة عند منتصف الليل بسبب كابوس تعلمت أن المدرسة يمكن أن تكون مكانا للحديث عن الواجبات وليس للاختباء وفي أول أسبوع حين سألها المعلم عن اسم والدتها ترددت لحظة ثم قالت سارة بصوت ثابت كان هذا وحده انتصارا ثم بدأت تضيف جملة أخرى بمرور الأيام أمي تصنع أفضل بسكويت بالشوكولاتة وكأنها بتكرارها تكتب سارة من جديد خارج تلك الليلة 
ومع أن الحي كان آمنا إلا أن الأمن لم يأت دفعة واحدة كان يأتي على هيئة طبقات طبقة من الأقفال الجديدة طبقة من الجيران الذين يلقون التحية بلا فضول جارح طبقة من صمت غير عدائي وأعمق طبقة كانت في الداخل في صدر إيما حيث الخوف لا يختفي لمجرد أن الخطر ابتعد كان الخوف يتراجع خطوة ثم يعود خطوتين عند بعض الأصوات طرق قوي على الباب صراخ بعيد في الشارع زجاج ينكسر في بيت آخر وكانت سارة حين تلاحظ ذلك لا تقول لإيما لا تخافي وكأن الخوف عيب بل تقول أنا هنا وتكررها حتى يصير للعبارة وزن حقيقي 
وفي كل يوم أحد بدقة تشبه مواعيد القطارات كان ماتيو يأتي لم يعد ماتيو رايتشي الاسم الذي ترتجف له غرف الاجتماعات ويتهامس به الناس في الحانات كان يأتي بصفته العم مات حاملا صندوق الشطرنج تحت ذراعه ومعه كيس ورقي صغير يرفض أن يشرح ما فيه إلا بعد أن تدخل إيما وتجلس أحيانا كان الكيس يحتوي على كتاب قصص مصور وأحيانا على قطع خشبية جديدة للشطرنج لأن إيما فقدت حصانا تحت الأريكة وأحيانا لا شيء سوى رائحة قهوة اكتسبها معطفه من الطريق لكنه كان يحمل دائما شيئا واحدا لا يرى حضوره الكامل 
كان يجلس على ركبتيه ليكون في مستوى نظرها لا في مستوى سلطة فوقها يسألها عن المدرسة ثم يصمت ليستمع فعلا لا ليجيب كانت تلك مهارة لم يكن يعرفها من قبل وإذا أخطأت إيما في وصف شيء ما لا يصححها بقسوة كان يتركها تكمل ويجعلها تشعر أن الكلمات لا تعاقب وإذا لم تشأ الحديث كان يتقبل الصمت كما لو كان لغة أخرى 
ومع الشطرنج بدأ عالم جديد يتشكل لم يكن الهدف أن تفوز إيما كان الهدف أن تتعلم أن الخسارة لا تعني الأذى كان ماتيو يتعمد أن يخطئ أحيانا لكنه لم يفعل ذلك بطريقة مهينة كان يخسر بخفة ثم يقول حسنا هذه حركة ذكية وكأن الذكاء شيء يحتفى به لا شيء يستفز منه كانت إيما تضحك حين تكتشف أنه ترك ملكه مكشوفا عمدا وفي تلك اللحظات كان الضحك يفتح نافذة داخلية أوسع من النافذة التي تقف عندها الآن 
وسارة من بعيد كانت تراقبهما دون أن تتدخل كثيرا كانت تشكر القدر في سرها ثم تتذكر أنها لا تؤمن بالقدر وحده بل بالأفعال التي تنقذ كانت ترى في ماتيو تناقضا يصعب على عقلها أن يستوعبه رجل قادر على أن يكون مرعبا لكنه اختار أن يكون رحيما وكانت تعرف أن ذلك الاختيار ليس بسيطا كانت تعرف أن الرأفة بالنسبة له ليست طبعا جاهزا بل قرار يتخذ كل مرة 
مع مرور الأسابيع صار الأحد طقسا يضبط إيقاع البيت صار سارة تطبخ أكثر في تلك الليلة لأنها تريد أن ترد شيئا من الدين وصارت إيما ترتب طاولة الشطرنج قبل وصوله بعشر دقائق وكأنها تعلن سيادتها على مساحة آمنة أحيانا كانت تضع القطع في أماكن خاطئة عمدا لتختبر هل سيغضب هل سيسخر هل سيصرخ وكان ماتيو يبتسم فقط ويعيد ترتيبها معها ببطء ثم يقول نبدأ من جديد وكل مرة يقول فيها هذه العبارة كانت إيما تسمع معناها الأوسع يمكننا أن نبدأ من جديد دون عقاب 
لكن أطول ما تغير لم يكن في البيت وحده بل في الرجل الذي كان يطرق بابهم كل أحد ماتيو الذي اعتاد أن يقيس العالم بالقوة والهيبة وجد نفسه يقيسه الآن بأشياء أخرى كم مرة استطاع أن يطمئن طفلة بكلمة واحدة كم مرة استطاع أن يتراجع خطوة حين تهاجمه رغبته القديمة في السيطرة كم مرة استطاع أن يبقى حاضرا دون أن يهرب إلى عمله كان يكتشف أن القسوة ليست دليل قوة بل طريقة رديئة لتسكين ألم قديم 
وفي بعض الأحدات حين تنام إيما بعد لعب طويل كانت سارة تجلس معه في المطبخ على ضوء خافت لا حديث عن تلك الليلة مباشرة بل حديث عن أشياء محايدة وصفة جديدة مشوار المدرسة فاتورة كهرباء ومع ذلك كانت الكلمات تحمل تحتها اعترافا صامتا نحن نثق بك ولكن بحذر وكان ماتيو يفهم ذلك ويقبل به ولا يطلب أكثر مما يعطى كان يعرف أن الثقة لا تؤخذ بل تبنى 
وفي مساء متأخر حين خرج إلى الشرفة ليستنشق هواء باردا سمع إيما تناديه من خلف الباب بصوت مبحوح من النعاس عم مات لا تنس تجي الأحد الجاي توقف لثانية وكأن الجملة ضربته في مكان حساس لم تقل هل ستأتي قالت لا تنس كأن وجوده صار جزءا من جدول الأمان لا حدثا استثنائيا أجابها بهدوء لن أنسى ثم ابتسم وحده لأن الكلمة كانت وعدا جديدا 
الرجل الذي أقسم يوما ألا يثق ولا يحب ولا يشعر لم يدرك إلا متأخرا أن هذا القسم لم يكن قوة كما ظن بل درعا هشا صنعه خوفا من ألم قديم اكتشف أن الحياة لا تكتفي بأن تجرحك مرة واحدة ثم تمضي بل قد تعود لتضغط على الجرح ذاته لا لتزيده نزفا بل لتمنحك فرصة نادرة لإصلاح ما انكسر في أعماقك فرصة لا تأتي في هيئة معجزة صاخبة ولا في صورة خلاص فوري بل تتسلل بهدوء على هيئة موقف صغير أو رسالة قصيرة أو مسؤولية لم تخترها لكنها اختارتك 
واكتشف أيضا أن بعض الرسائل لا تخطئ الرقم عبثا فحين ترسل رسالة إلى رقم خاطئ قد تكون في حقيقتها قد وجدت العنوان الوحيد القادر على استقبالها قد تصل إلى الرجل الصحيح في اللحظة الخطأ أو إلى اللحظة الصحيحة في حياة الرجل الخطأ لحظة يكون فيها على
وشك الضياع الكامل وقد أقنع نفسه أن ما تبقى من عمره لا يتسع لشيء سوى الحسابات الباردة والقرارات القاسية عندها فقط تأتي الرسالة لتعيد ترتيب المعادلة لا بقوة الكلمات بل بثقل المعنى الذي تحمله 
تعلم أن الوعود الحقيقية لا تموت حتى لو نسيت ولا تفقد قيمتها حتى لو دفنت تحت سنوات من الإنكار إنها تنتظر صاحبها بصبر عجيب تنتظر أن ينتهي من الهروب وأن يخلع الأسماء التي احتمى بها وأن يتوقف عن التظاهر بأنه لا يحتاج إلى شيء ولا إلى أحد تنتظره حتى يعود إليها لا بطلب أو ندم بل بالفعل لأن بعض الوعود لا تسترد بالكلام بل تستعاد عندما يضع الإنسان نفسه أخيرا في المكان الذي كان ينبغي أن يكون فيه منذ البداية 
وأحيانا لا تحتاج المعجزة إلى ضوء مبهر ولا إلى حدث يهز العالم من حولك لا تحتاج إلى تصفيق ولا إلى شهود تكفي شجاعة طفلة صغيرة كتبت بأصابع مرتجفة وقلب مثقل بالخوف عبارة بسيطة أرجوك أسرع عبارة لا تحمل بلاغة ولا تعقيدا لكنها تحمل حياة كاملة معلقة بين الرجاء واليأس تلك الكلمات القليلة قادرة على أن توقظ إنسانا دفن نفسه عمدا تحت أسماء جديدة وتحت أقنعة صنعها ليبدو قويا بينما كان في الحقيقة يختبئ 
وتكفي تلك الشجاعة الطفولية لتشق ثغرة في جدار بني على مدى سنوات جدار من البرود واللامبالاة والانضباط القاسي ومن خلال تلك الثغرة يتسلل الضوء ببطء لا ليحول الظلام إلى نهار بل ليمنحه معنى جديدا ظلام لا يعود أداة أذى بل يتحولو لو جزئيا إلى حماية حماية لا تشبه صاحبها القديم لكنها تنقذه من أن يصبح أسوأ نسخة من نفسه 
وهكذا يفهم أخيرا أن الخلاص لا يأتي دائما من القوة بل من الاختيار اختيار أن تبقى أن تسمع أن تتحمل وأن تسمح لقلبك ولو بحذر أن يشعر مرة أخرى لأن بعض الرسائل لا تغير مسار ليلة واحدة فقط بل تعيد كتابة حياة كاملة وتمنح رجلا ضائعا سببا أخيرا ليصدق أن ما انكسر يمكن ترميمه وأن الظلام مهما طال لا يستطيع أن يبتلع النور إذا وجد من يحميه

الصفحة السابقة 1 2 3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock